في تطور يحمل دلالات اقتصادية وسياسية هامة، زار فريق من صندوق النقد الدولي العاصمة السورية دمشق لأول مرة منذ عام 2009، في مهمة رسمية تهدف إلى تقييم الوضع الاقتصادي ووضع الأسس الفنية لتعافي شامل. وتمثل هذه الزيارة “التاريخية” تحولًا إيجابيًا في مسار العلاقة بين سوريا والمؤسسات المالية الدولية، وتفتح الباب أمام إمكانيات جديدة لدعم الاقتصاد السوري، الذي يعاني من آثار أزمة طويلة ومعقدة. تأتي هذه الخطوة في وقت تبحث فيه البلاد عن حلول مستدامة، وسط جهود متزايدة لإعادة بناء المؤسسات وتعزيز الاستقرار المالي والاجتماعي.
في البيان الختامي لرئيس بعثة الصندوق، رون فان رودن، عكس صورة قاتمة عن الواقع السوري، حيث أشار إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في البلاد انكمش إلى جزء يسير مما كان عليه قبل الحرب، في ظل تدهور الدخول الحقيقية، وارتفاع معدلات الفقر، وانهيار البنى التحتية في مجالات الصحة والتعليم والخدمات.
هذه المؤشرات لا تقتصر على الأرقام، بل تمتد إلى الواقع اليومي الذي يعيشه السوريون: ضعف القدرة الشرائية، نقص في الأدوية والخدمات الأساسية، وانكماش في النشاط الاقتصادي على مختلف المستويات. وهو ما دفع صندوق النقد إلى التحذير من أن سوريا باتت بحاجة إلى تحرك عاجل نحو تعافٍ اقتصادي مستدام، يأخذ في الحسبان الأبعاد الإنسانية المتفاقمة واحتياجات العائدين من اللاجئين.
خلال الزيارة التي امتدت من 1 إلى 5 حزيران 2025، ركز فريق الصندوق على مجموعة من الأولويات ذات الطابع العاجل، أبرزها:
إعداد موازنة لبقية عام 2025 مع ضمان تلبية الاحتياجات الأساسية، لا سيما الرواتب والخدمات الصحية والتعليمية.
إصلاح النظامين الضريبي والجمركي ووضع إداراتها تحت إشراف مباشر من وزارة المالية لتحسين الكفاءة ومكافحة الفساد.
تمكين المصرف المركزي من كبح التضخم واستعادة الثقة بالليرة السورية، من خلال تطوير أدوات السياسة النقدية.
إعادة تأهيل القطاع المصرفي ونظام المدفوعات، وتعزيز منظومة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
تحسين جودة البيانات الإحصائية وضمان استقلالها، كخطوة أساسية في دعم اتخاذ القرار وبناء السياسات الاقتصادية على أسس علمية.
من النقاط التي برزت في المحادثات، دعوة الصندوق إلى إزالة العوائق التي تحول دون نمو القطاع الخاص، بما يعكس تحولا في الفهم الدولي لدور هذا القطاع كمحرك للنمو، وضرورة التخفيف من قبضة الدولة المركزية على الاقتصاد، لا سيما في ظل محدودية الموارد العامة. فبدون شراكة فعالة مع القطاع الخاص، سيصعب تحفيز النمو وخلق فرص عمل وتجاوز التحديات البنيوية.
التحدي الأكبر: محدودية التمويل والقدرات
رغم وضع خارطة طريق طموحة، أقر فريق الصندوق بصعوبة تنفيذها دون دعم دولي كبير، سواء عبر تمويل ميسر أو برامج دعم فني لبناء القدرات وتحديث المؤسسات المتقادمة. فغياب بيئة سياسية مستقرة، واستمرار العقوبات الغربية، وتشتت السلطة على الأرض، عوامل تجعل سوريا في موقع هشّ للغاية، يصعب فيه تنفيذ خطط اقتصادية دون إطار دولي داعم ومتكامل.
دلالات الزيارة: تطبيع اقتصادي أم بداية لمقاربة جديدة؟
زيارة صندوق النقد الدولي إلى دمشق لا تندرج فقط في إطار تقييم الأوضاع الاقتصادية، بل تحمل أبعادًا سياسية واقتصادية أوسع. إذ يمكن النظر إليها كمؤشر على رغبة بعض الأطراف الدولية في إعادة الانخراط التدريجي مع النظام السوري، لكن من بوابة الاقتصاد هذه المرة. ومع ذلك، فإن هذا الانخراط مشروط بتحقيق خطوات إصلاحية واضحة، وتحسين البيئة الإنسانية، ورفع كفاءة المؤسسات الرسمية.
خاتمة: بداية المسار أم اختبار لنوايا دمشق؟
إن خارطة الطريق التي خرجت بها زيارة صندوق النقد الدولي تمثل أول محاولة دولية جدية منذ سنوات لوضع أسس تعافٍ اقتصادي في سوريا. ومع أن هذه الخطة لا تزال في إطار التوصيات الفنية، إلا أنها تضع الكرة في ملعب السلطات السورية. فإما أن يتم استثمار هذه الفرصة لبناء مسار تدريجي نحو إعادة تأهيل الاقتصاد واستعادة الثقة الدولية، أو أن تبقى الزيارة حدثاً عابرًا في تاريخ أزمة مستعصية طال أمدها.
وفي كل الأحوال، فإن نجاح أي مسار تعافٍ اقتصادي حقيقي يظل مرهوناً بوجود إرادة سياسية للإصلاح، وبالانفتاح على دعم المجتمع الدولي وفق شروط شفافة وعادلة تراعي مصالح السوريين بالدرجة الأولى.