من أكثر الملاحظات إثارة للتأمل ما ذكره أحد الباحثين حين قال:
“يكفيني دليلاً على صدق محمد، أن أول من آمن به هم أول من عرفه.”
في التجربة الإنسانية المعتادة، يبني القادة والمفكرون عظمتهم في أعين من لا يعرفونهم عن كثب ,الغرباء، الجماهير، والمريدون , الذين يرون الهالة ولا يرون صاحبها.
أما أولئك الذين عاشوا مع القائد، واحتكوا به في تفاصيل يومه، فهم غالبا أول من يرى هشاشته، وتردده، وتناقضه الإنساني. هذا الصفاء في الحضور يظل استثناء نادرا، يُضيء بفرادته قاعدة أعمق:
أن الحضور الكامل، في أغلب الأحيان، يُرهق الصورة، يُخضعها للاختبار، ويكشف الجانب البشري الذي لا تصمد أمامه الهالات كثيرا.
بينما الغياب، على النقيض، فالغائب لا ينسى، بل يُروى؛ ولا يُفقد، بل يُستعاد مضخما، متوهجا، متحررا من قيود اليومي والعابر.
- انكسار الواقعية: كيف يحفظ الغياب طهارة الرمز
“كل من اقترب من الضوء، يرى الظل الذي خلفه.”نيتشه
حين يحضر المفكر أو القائد جسديا في حياتنا اليومية، يدخل دائرة التورط الإنساني: يتخذ قرارات، يتراجع عنها، يتردد، يجامل، يضعف، يغضب، يسهو، يخطئ. وحين يحدث ذلك، يبدأ الناس في اكتشاف أن الرجل العظيم هو في النهاية شخص مثلهم، لا يعيش في مستوى الأسطورة، بل في مساحة الضعف البشري.
أما الغائب، فهو لا يضطر لمواجهة هذه المزالق .غيابه يجعله في منطقة خارج المحاسبة اليومية. لا يُجبر على التصريح، ولا على اتخاذ موقف سريع، ولا على الاختيار بين خيارات كلها ناقصة. انه حر من أعباء الخطأ، يُحافَظ على صورته المتخيلة نقية .
- المرآة المفتوحة: الغائب الذي يتشكل فينا
“الكلمات مثل الطيور، إذا طارت من قفص قائلها، لم يعد يملكها.”
الغائب لا يمكن الإمساك به. أقواله تصبح نصوصاً مفتوحة للتأويل، قابلة لأن يُفسَّر كل جزء منها بطرق متعددة، وفي اتجاهات متناقضة أحيانًا.
وإذا بدا في كلامه تناقض أو خطأ، فالناس غالباً يقولون: “لم يكن يقصد ذلك”، أو “السياق غير واضح”، أو “أتباعه أساؤوا الفهم”.
يمتلك الغائب قدرة فريدة على الانفلات من أقواله؛ فإن أخطأ، تَرجح الناس كفة التأويل، أو يلقى باللائمة على السامعين الناقلين.
كلماته إشارات مفتوحة، لا مواقف قاطعة، و فكرته رمز عابر للزمن بلا حدود.
3.الشهيد الحي: الغياب كشرط للقداسة الشعبية
“يموت الرجل، فتولد أسطورته.” رولان بارت
الغائب لا يكون فقط مفكرًا أو قائدًا، بل يتحوّل مع الوقت إلى نص رمزي مفتوح، وربما إلى “أسطورة حية”, فالناس تميل بطبعها للتعاطف مع المظلوم أو المقموع أو المنفي أو المقتول، خاصةً حين يكون غيابه قسريًا أو دراميًا.
عندها، يصبح الغياب في ذاته مولِّدًا للتعاطف والمصداقية، أكثر من الحضور نفسه.
وما إن يغيب القائد، حتى تتناسل الروايات من حوله كالأصداء في الفراغ، وتُغزل صورته بخيوطٍ من الروح والتاريخ والخيال الجمعي. وهكذا لا يُطفئ الغياب نوره، بل يضاعف شعاعه، ويمنحه اتساعاً لا يتيحه الحضور.
ختاما : الظل الذي يقود: حضور الغائب كأعلى أشكال السلطة
لم يكن نيتشه حاضرا حين جعلوه نبيّا للعدمية، ولم يكن جيفارا حاضرا حين طُبعت صورته على قمصان السوق .
في زمنٍ يُستهلك فيه القادة والمفكرون كما تُلتهم العناوين العاجلة، يغدو الغياب آخر معقل يلجأ إليه الرمز ليصون سلطته من التآكل.
فما إن يبتعد القائد عن أنظار أتباعه، حتى يبدأ حضوره الرمزي في الاتساع، لا كجسدٍ حاضر، بل كطيفٍ هائم، ينعكس في مرايا الأحلام، ويتردد كأصداء الألم، ويتحوّل إلى ساحةٍ مفتوحة تسكنها الإسقاطات، والتأويلات، والتوق الوجودي إلى معنى يتجاوز حدود الإنسان.
والسؤال الذي يبقى معلّقاً في نهاية هذا التأمل هو:
هل نحن نحب القادة والمفكرين لأنهم بيننا؟ أم لأنهم غائبون بما يكفي لنمنحهم ملامحنا نحن، لا ملامحهم؟
أهو وجودهم حقاً ما يجذبنا؟ أم المسافة التي تتيح لنا أن نسقط عليهم أحلامنا، مخاوفنا، وحاجتنا الدائمة إلى معنى؟
فالحضور، بكل ما يحمله من عثرات وكلمات يومية ومواقف آنية، يعرفنا على الإنسان الحقيقي، القابل للخطأ والانكسار.
أما الغياب، فيحرر الصورة من ثقل الجسد، ويمنحها حرية التشكل في المخيال، كقالبٍ فارغ يمتلئ بما نشتهي لا بما هو.
فهل يستطيع القائد الحاضر أن يصمد أمام وهج الصورة التي يصنعها الغائب؟
أم أن الذكاء الرمزي، بل وحتى السياسي، يكمن في أن تبقى غامضا قليلا، بعيدا قليلا، حتى يرى فيك الناس ما يريدون أن يروه… لا ما أنت عليه حقا؟