كان منيف الرزاز، آخر أمين عام لحزب البعث، مصيباً حينما سمّى كتابه “التجربة المرّة” ليصف تجربته مع الحزب. تلك التجربة المريرة لم تقتصر على الرزاز وحده، بل عاشها الشعب السوري لعقود طويلة. منذ استلام حزب البعث السلطة في سوريا في الثامن من آذار/مارس 1963، أدار هذا الحزب ظهره لمطالب الشعب السوري، مسيطراً على الحكم بالقوة، القمع، والتدمير. ومع مرور أكثر من نصف قرن، لم يُفلح الشعب السوري في التخلص من الحكم الاستبدادي الذي كرّسه البعث، بل ازدادت المعاناة تحت وطأة الإرهاب والقمع الذي تأسس على يدي الحزب وأذرعه العسكرية.
في الثامن من آذار 1963، أُذيع البلاغ رقم واحد الذي أعلن نهاية عهد الانفصال وعودة سوريا إلى نظام ديمقراطي ولو بشكل جزئي. كانت تلك محاولة لإعادة البلاد إلى مسار ديمقراطي بعد فشل الوحدة مع مصر، إلا أن العسكر لم يسمحوا للديمقراطية بالنهوض. فجاءت سيطرة “الضباط الشوام” الذين تحالفوا مع كل من الضباط الناصريين والبعثيين لتحقيق أهدافهم، إلا أن هذه التحالفات كانت قصيرة الأمد. على إثر تمرد حلب، الذي قاده الناصريون بقيادة جاسم علوان والبعثيون بقيادة حمد عبيد، فشلت تلك المحاولات وانتهت بتسريح الضباط الناصريين، وتمكين البعث من السيطرة الكاملة في البلاد.
استطاع حزب البعث في الثامن من آذار 1963، عبر تحالف جديد بقيادة ضباط بعثيين مثل زياد الحريري ومحمد الصوفي ولؤي الأتاسي، القيام بانقلاب عسكري سيطروا من خلاله على البلاد. ولكن سرعان ما غدر البعث بالقوى الناصرية، وبدأت سلسلة تصفيات وإقصاءات دموية كان أبرزها في 18 تموز/يوليو 1963، مما أدى إلى إبعاد جميع القوى المناوئة للبعث من الساحة السياسية.
لم يكتب أحد حتى الآن تأريخاً موضوعياً لتجربة البعث، وذلك بسبب كثرة الانشقاقات الداخلية التي تعمّدت محو التاريخ الحقيقي للحزب. رغم المحاولات المحدودة لكتابة هذا التاريخ، مثل أطروحة الدكتور مصطفى الدندشلي ودراسة هاني الفكيكي، إلا أن هذه المحاولات لم تستطع توثيق حجم المعاناة التي سببتها سيطرة الحزب على السلطة. كان البعث قبل استلامه السلطة مجموعة من الشلل السياسية التي اعتمدت على شعارات قومية فارغة ومقولات سطحية لمؤسسيه ميشيل عفلق وصلاح البيطار.
فشل القيادة والتوجه الأيديولوجي:
حين استلم البعث السلطة، واجه قادته أزمة في كيفية إدارة البلاد. بالإضافة إلى افتقارهم إلى برنامج سياسي واقتصادي لبناء دولة قوية، اضطروا إلى عقد المؤتمر القطري الثالث لوضع برنامج مرحلي لسوريا والعراق، إلا أن اليسار البعثي سيطر على هذا المؤتمر. قاد كل من ياسين الحافظ وجورج طرابيشي التوجهات الفكرية في هذا المؤتمر، غير أن العسكر كانوا يخططون للانقضاض على هذا اليسار.
في العراق، أُزيح الجناح اليساري للبعث بطريقة دموية في أحداث تشرين الثاني/نوفمبر 1963، حيث تصاعدت الصراعات بين الفصائل المختلفة داخل الحزب، مما أدى إلى سيطرة العسكر على الحزب. هذه السيطرة لم تكن مقتصرة على العراق فقط، بل امتدت إلى سوريا أيضاً، حيث استطاع حافظ الأسد، بعد انقلاب 23 شباط/فبراير 1966، تحويل الجيش السوري إلى جيش عقائدي يمسك بزمام الأمور السياسية والعسكرية.
أصبحت سوريا، تحت سيطرة حافظ الأسد وأذرعه العسكرية والأمنية، دولة أمنية قائمة على القمع والفساد. أسس حافظ الأسد مع أخيه رفعت “سرايا الدفاع”، التي كانت تمثل الوجه الطائفي للنظام وتعمل كأداة إضافية لتعزيز سلطته في حال فشل الجيش العقائدي في حفظ السيطرة. خلال هذه المرحلة، تكاثر الأجهزة الأمنية بصورة “سرطانية” لتصبح الدولة البعثية دولة بوليسية بامتياز، حيث سيطرت على كل مظاهر الحياة في سوريا.
كانت بداية الفساد والطائفية تتجلى بشكل واضح في عهد حافظ الأسد، الذي عزّز حكمه من خلال القمع المستمر لأي حركات معارضة. ومن أبرز مظاهر القمع تدمير مدينة حماة عام 1982، حيث قضى النظام على المعارضة بوحشية لا مثيل لها.
الثورة السورية وعودة الشعب للمواجهة:
رغم القمع والتدمير، لم يستسلم الشعب السوري. فمنذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، قدّم السوريون تضحيات جسيمة ضد نظام البعث. ومع سقوط آلاف الضحايا وتشريد الملايين، أثبت الشعب السوري صموده ورغبته في التخلص من النظام الذي دمّر البلاد على مدى عقود.
الخاتمة:
يتحمل حزب البعث مسؤولية كبرى لما حدث ويحدث في سوريا من دمار وخراب. فالبعث كان، ولا يزال، “البغل” الذي يقود العربة بغض النظر عن من يمسك برسنها. ومع استمرار النظام في قمعه واستبداده، يستمر الشعب السوري في نضاله، ليكتب صفحات جديدة من التاريخ ستروي للأجيال القادمة بطولات من صمدوا في وجه الطغيان.