تعيش الأجواء السورية كما أرضها لحظة توتر عسكري وسياسي نادرة من نوعها، إذ شهدنا مؤخراً رصد مقاتلات من طراز F-16 تابعة لكل من سلاح الجو التركي وسلاح الجو الإسرائيلي تحلّق في توقيتات متقاربة وربما في مناطق متداخلة من الأجواء السورية.
هذا التواجد العسكري المتوازي لا يمكن قراءته بوصفه مجرد استعراض للقوة، بل هو انعكاس لصراع نفوذ عميق يتجاوز الجغرافيا السورية، ويمتد إلى الإقليم برمته، في وقت تتزايد فيه مؤشرات الفوضى، وتتراجع فرص التهدئة ، و سخونة الجنوب السوري تشير بوضوح إلى ذلك.
هذا التوتر لا يأتي في فراغ، بل في ظل تصريحات تصعيدية متبادلة، تؤكد على تمسك كل طرف بـ”خطوطه الحمراء”.
فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن أن وحدة الأراضي السورية وسلامتها تمثل “خطاً أحمر” لبلاده، خاصة بعد ما شهدته مناطق الشمال السوري من محاولات للتقسيم أو فرض أمر واقع من بعض المكونات المحلية.
في المقابل، عبّرت حكومة بنيامين نتنياهو عن رفضها القاطع لأي تمدد عسكري تركي في عمق الأراضي السورية، لا سيما نية أنقرة إقامة قاعدة جوية تركية في مطار “T4” في حمص .
كما أكدت إسرائيل أن أي انتشار عسكري تابع “للدولة الجديدة” في سوريا، إذا اقترب من حدودها أكثر من 60 كيلومتراً، فسيُعتبر تهديدًا مباشراً.
وفي خلفية هذه المواجهة الصامتة، تقف الولايات المتحدة، حيث يلعب الرئيس دونالد ترامب دوراً معقّداً، إذ يحاول الموازنة بين حليفين متضادين: تركيا العضو المهم في الناتو، وإسرائيل الشريك الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
ترامب، الذي يرى في أردوغان “صديقًا مقرباً”، لا يريد أن ينزلق نتنياهو إلى صدام مباشر مع أنقرة، خاصة في وقت يعاني فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي من تراجع داخلي بسبب ملفات الفساد وضغط عائلات الأسرى في غزة.
ولعل النقطة الأخطر في هذا المشهد تتمثل في غياب التنسيق العسكري الفعّال بين الطرفين في الأجواء السورية، الأمر الذي يفتح الباب أمام سيناريوهات خطرة، كما حدث عام 2015 عندما أسقطت تركيا طائرة سوخوي 24 روسية على الحدود السورية، مما تسبب حينها بأزمة حادة مع موسكو.
فهل يتكرر السيناريو نفسه بين أنقرة وتل أبيب إذا ما وقعت “طلقة طائشة” أو استهداف خاطئ في سماء باتت ملبدة بغيوم التوتر ملعباً لطائرات الطرفين ؟
الداخل السوري نفسه لا يقل تشظّياً عن سمائه. ففي الجنوب، تتصاعد الفتنة الطائفية، وسط تصريحات لشيخ العقل حكمت الهجري بعدم الاعتراف بالدولة الجديدة، وهو موقف حظي، بحسب مصادر، بدعم إسرائيلي مباشر، خصوصاً بعد أن قامت تل أبيب بقصف مواقع حساسة داخل سوريا، من بينها محيط القصر الجمهوري، في رسالة سياسية بليغة.
وفي الشمال الشرقي، تتلكأ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في تنفيذ اتفاقها مع القيادة السورية الجديدة، إذ عُقد مؤتمر مؤخراً تحدّثت فيه عن “روج آفا” والإدارة الذاتية، مما اعتبرته دمشق خرقاً واضحاً للاتفاق، ووجّهت على إثره بياناً أكدت فيه أن وحدة سوريا خط أحمر لا يمكن التهاون فيه.
تركيا، بدورها، بدأت تعزز من علاقتها مع القيادة السورية الجديدة، بل وشرعت في التفاهم على اتفاقيات دفاع مشترك، قد تفضي إلى إقامة قواعد عسكرية تركية وسط سوريا.
لكن كل هذا لا يمكن فصله عن العامل الإيراني، الذي يُعد أحد أكثر عناصر هذا المشهد سخونة وتعقيدا.
إيران، التي تواجه تعثّراً واضحاً في مفاوضاتها النووية مع الولايات المتحدة، تواصل دعمها العسكري والسياسي لبعض القوى في سوريا، وفي مقدمتها فلول النظام السابق التي لا تزال تختبأ في الساحل، وتعمل على تقويض الدولة الجديدة بدعم من طهران.
المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن وصلت إلى طريق مسدود، لا سيما بعد فرض إدارة ترامب عقوبات جديدة على شركات إيرانية تُتهم بتمويل الحوثيين.
وقد دفع هذا التعثر إيران إلى تصعيد ردودها الإقليمية، فشهدت تل أبيب مؤخراً هجوماً صاروخياً تبناه الحوثيون، أدى إلى شلل في حركة الطيران الإسرائيلي، وهو ما وصفه نتنياهو بأنه “بداية رد مفتوح”.
اللافت أن واشنطن تدخلت سريعاً، حيث أبلغت تل أبيب أنها هي من ستتولى الرد على الحوثيين، في محاولة لاحتواء التصعيد ومنع انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة.
كل هذه المعطيات تشير إلى أن الأجواء السورية أصبحت نقطة تقاطع حساسة بين ملفات محلية وإقليمية ودولية، تتداخل فيها حسابات الأمن، النفوذ، والصراع على مستقبل المنطقة.
وإذا لم يتم التوصل إلى تنسيق فعلي بين اللاعبين الكبار، فإن احتمالات التصعيد—سواء المتعمد أو العرضي—ستظل قائمة، بل ومرجّحة.
ختاماً بين التحليق والتحطّم
سوريا لم تعد مجرد أرض نزاع، بل أصبحت فضاءً مفتوحاً لاختبار التوازنات الإقليمية والدولية. F-16 في مواجهة F-16 ليست مقارنة في القدرات العسكرية التي تنتمي إلى نفس المصنع ، بل هي تعبير عن تصادم مشاريع سياسية وأمنية في سماء مضطربة. ومع كل طلعة جوية دون تنسيق، ومع كل تصريح تصعيدي دون حوار، يقترب المشهد من الحافة.
وما لم تنجح الوساطات، وتُحترم الخطوط الحمراء، فإن شرارة مواجهة إقليمية قد تشتعل من سماء سوريا، ولكن حريقها سيطال الجميع ، وستكون بعض المكونات السورية في قلب الحريق .