أعلن نائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز عن تشكيل آلية إقليمية مشتركة تضم كلاً من تركيا والعراق وسوريا ولبنان والأردن، بهدف التصدي لما وصفه بـ”الدور الإسرائيلي المزعزع للاستقرار الاستراتيجي في المنطقة”. جاء هذا الإعلان في وقت بالغ الحساسية بعد التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الساحة السورية أواخر عام 2024، مع سقوط نظام بشار الأسد، وصعود نظام جديد بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع.
وأوضح يلماز أن هذه الآلية ليست محاولة لإنشاء نظام إقليمي بديل، بل هي خطوة عملية تنسيقية لتوفير أدوات دعم ومساعدة خاصة لسوريا في “بناء نوع من القدرات”، في إشارة واضحة إلى رغبة أنقرة بدعم الجيش السوري الجديد، وتعزيز أمن الحدود، ومواجهة النفوذ الإسرائيلي، الذي تعتبره تركيا تهديداً مباشراً للاستقرار في المنطقة.
ومن المقرر أن يبدأ العمل بالآلية “قريباً جداً”، حيث تم الإعلان أن مركز التنسيق الخاص بها سيكون داخل الأراضي السورية، مع تأكيد أن جميع الطلبات المتعلقة بمهامها ستصدر من الجانب السوري. هذه الخطوة، وإن بدت تنسيقية، إلا أنها تعكس في جوهرها محاولة تركية لإعادة رسم موازين القوى الإقليمية بما يتوافق مع مصالحها في سوريا وما حولها.
على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي بنسخته الرابعة، كان اللقاء الثنائي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره السوري الجديد أحمد الشرع من أبرز محطات المنتدى. اللقاء الذي جرى بعيداً عن عدسات الإعلام، تناول العلاقات الثنائية وملفات حساسة في المنطقة، حيث أعرب أردوغان عن امتنانه لإحباط محاولات نشر الفوضى مجدداً في سوريا، مؤكداً أهمية استمرار الاستقرار في البلد الذي ظل في حالة حرب لعقد من الزمن.
كما شدد أردوغان على أن تركيا ستواصل جهودها الدبلوماسية لرفع العقوبات الدولية عن سوريا، بالتوازي مع تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، وفتح آفاق استثمارية تركية في قطاعات البنى التحتية، الطاقة، والمواصلات.
تميزت النسخة الرابعة من المنتدى هذا العام بشعار “تبنّي الدبلوماسية في عالم منقسم”، لكن الملف السوري كان أبرز الحاضرين رغم كثافة المشاركين. فقد حظي حضور الرئيس السوري أحمد الشرع باهتمام إعلامي لافت منذ لحظة وصوله، وأجرت معه وسائل الإعلام مقابلات وصوراً تعكس رمزية الحضور السوري الرسمي للمرة الأولى منذ سنوات.
وضم الوفد السوري عقيلته لطيفة الدروبي، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، إضافة إلى لقاءات ثنائية متسارعة مع شخصيات عربية وإقليمية ودولية. من أبرز هذه اللقاءات:
مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
مع رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني
مع رئيسة جمهورية كوسوفو فيوسا عثماني
مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف
مع رئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة
هذه اللقاءات المتعددة تعكس تحركاً سورياً نشطاً نحو إعادة تثبيت موقع دمشق في معادلة العلاقات الإقليمية، مستفيدة من التحولات السياسية الجديدة في المنطقة.
مخاوف إسرائيلية ومحاولات لاحتواء الأزمة
تصريحات نائب وزير الخارجية التركي جاءت في سياق تصاعد القلق الإسرائيلي من النفوذ التركي المتزايد في سوريا، خاصة بعد محاولات أنقرة تثبيت وجودها العسكري عبر قواعد جوية وقوات خاصة داخل الأراضي السورية. ورداً على ذلك، شنت إسرائيل سلسلة غارات جوية استهدفت بعض القواعد والمواقع العسكرية التي أنشأها الجيش السوري الجديد بالتعاون مع القوات التركية.
وهو ما دفع أنقرة إلى إصدار تصريحات غير معتادة أكدت فيها أنها “لا تسعى لمحاربة أي دولة على التراب السوري”، في إشارة غير مباشرة إلى إسرائيل. وعلى إثر التصعيد، دخلت أنقرة وتل أبيب في محادثات تقنية لتفادي التصادم المباشر على الأراضي السورية.
أبعاد التحالف الإقليمي الجديد: أهداف وتحديات
تسعى تركيا من خلال هذه الآلية الخماسية إلى:
تقوية الشراكة الأمنية مع النظام السوري الجديد
احتواء النفوذ الإسرائيلي عبر التنسيق الإقليمي
تأمين حدودها الجنوبية
تسريع مشاريع إعادة الإعمار
ضمان عودة تدريجية للاجئين السوريين
فتح الأسواق السورية أمام الاستثمارات التركية
منح الشرعية السياسية لتواجدها العسكري في سوريا
أما من جهة الحكومة السورية الجديدة، فإنها ترى في هذه الآلية فرصة لتحقيق استقرار أمني ودعم اقتصادي خارجي في ظل عزلة دولية جزئية ما تزال مفروضة.
لكن في المقابل، تواجه الآلية الجديدة تحديات معقدة، أبرزها:
استمرار المخاوف الإسرائيلية من التمدد التركي-السوري
تحفظ بعض الأطراف الإقليمية، خاصة مصر والخليج
تصاعد التوتر الأميركي-الإيراني في سوريا
موقف المعارضة السورية المهجّرة من هذه التفاهمات
خاتمة:
تشكّل الآلية الإقليمية الخماسية خطوة تركية متقدمة نحو بناء تحالف استراتيجي جديد في المشرق العربي، في ظل توازنات معقدة ومتغيرة. وقد يصبح هذا التحالف، إن قُدّر له النجاح، نواة لنظام أمني واقتصادي جديد في المنطقة، يتجاوز مرحلة ما بعد الحرب السورية، ويؤسس لعلاقات قائمة على تبادل المصالح، مواجهة النفوذ الخارجي، وتثبيت الاستقرار المحلي.
إلا أن مصير هذه المبادرة سيبقى رهناً بحجم التفاهمات الإقليمية والدولية حول مستقبل سوريا، ومدى قدرة هذا التحالف على تجاوز العقبات الداخلية والخارجية، خاصة في ظل معارضة قوى إقليمية لنفوذ تركي موسّع في المنطقة.