تشهد سوريا اليوم مرحلة مفصلية، ليس فقط على المستوى السياسي والاجتماعي، بل على الصعيد الاقتصادي الذي يُعدّ مفتاح الانتقال من حالة الانهيار إلى مسار النهوض. وبينما تحاول البلاد التعافي من تداعيات أكثر من عقد من الحرب، يبرز تساؤل مهم: هل يمكن لسوريا أن تحقق معجزة اقتصادية على غرار ما حصل في دول خرجت من دمار شامل إلى ازدهار ملحوظ، مثل ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية أو كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية؟
رغم واقع الأزمة الاقتصادية الذي يهيمن على تفاصيل الحياة اليومية، من انهيار العملة إلى التضخم وتردي البنى التحتية، إلا أن هناك مؤشرات ومقومات يمكن البناء عليها إذا توافرت الإرادة السياسية والإدارة الاقتصادية الرشيدة.
رغم تراجع وتيرة العمليات العسكرية في أجزاء كبيرة من سوريا، لا يزال الوضع الأمني هشاً، ويفتقر إلى الضمانات الكفيلة بجذب الاستثمارات أو تحريك عجلة الإنتاج. وقد أشار الباحث الاقتصادي أدهم قضيماتي إلى أن “الواقع الميداني لا يزال مليئاً بالعثرات مثل الوضع غير المستقر في الشمال الشرقي والجنوب السوري ومشاكل فلول النظام في الساحل”، وهذه الأوضاع تجعل أي مستثمر يعزف عن المخاطرة في مثل هذه البيئة.
اقتصادياً، تتفاقم الأزمة بفعل الانهيار المستمر لقيمة الليرة السورية، مما أدى إلى فقدان القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ما زاد من معاناة السوريين، ووسع دائرة الفقر والحرمان. كما أن العقوبات الغربية، خصوصاً الأميركية، لا تزال تشكّل حاجزاً كبيراً أمام انفتاح الاقتصاد السوري على العالم، وتمنع تدفق الاستثمارات والمواد الأساسية لإعادة الإعمار.
إلى جانب ذلك، تواجه البنية التحتية في سوريا دماراً واسعاً، من شبكات الكهرباء والمياه إلى الطرق والاتصالات. كما أن نزيف الكفاءات البشرية بفعل الهجرة والنزوح أفقد البلاد طاقات وخبرات كانت قادرة على قيادة قطاعات مهمة مثل الصحة والتعليم والصناعة.
دروس من ألمانيا: المعجزة ليست وهماً
من الممكن الاستفادة من التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. فقد نهضت ألمانيا الغربية بفضل سلسلة إصلاحات اقتصادية هيكلية تمثلت في تحرير الأسعار، وتحفيز المنافسة، وإعادة هيكلة البنوك.
في السياق السوري، تبدو الحاجة ماسة إلى إصلاح شامل للسياسات المالية والاقتصادية، وإعادة هيكلة البنوك وخلق بيئة تجذب رؤوس الأموال، من خلال محاربة الفساد والروتين الإداري، وإعادة الاعتبار للقطاع الخاص باعتباره ركيزة أساسية في الإنتاج والاستثمار.
كذلك، القطاع الخاص في سوريا بحاجة إلى تمكين فعلي، وتسهيل القوانين الناظمة له، والسماح بمرونة في اتخاذ القرارات. مع توفير بيئة قانونية عادلة تضمن حقوق المستثمرين.
ألمانيا أيضاً ركّزت على البنية التحتية، وربطت المدن بشبكات طرق حديثة، وطوّرت موانئها ومرافقها الخدمية. على غرار ذلك، تحتاج سوريا إلى مشاريع طموحة لإعادة تأهيل البنية التحتية بالشراكة مع القطاع الخاص أو عبر تمويل مشترك، مع إعطاء أولوية لمحطات الكهرباء والمياه والاتصالات.
التجربة الألمانية تؤكد أيضاً على دور التعليم والتدريب المهني، وهو ما تفتقر إليه سوريا حالياً في ظل ضعف الإنفاق الحكومي على التعليم. إعادة تأهيل النظام التعليمي، وربطه بسوق العمل، هو أحد شروط الانتقال نحو اقتصاد إنتاجي متطور.
مقومات داخلية كامنة… هل تصبح نقطة الانطلاق؟
رغم سوداوية المشهد، تملك سوريا مقومات مهمة إذا تم استغلالها بفعالية:
رأس المال البشري: آلاف الخريجين والكفاءات العلمية، داخل البلاد وفي الشتات، يمتلكون خبرات نوعية في مجالات الصناعة، التكنولوجيا، الطب، والاقتصاد. يمكن لهؤلاء أن يكونوا القوة المحركة لمرحلة الإعمار والنمو إذا ما توفرت بيئة آمنة وعادلة.
الموقع الجغرافي: تتمتع سوريا بموقع استراتيجي يربط بين آسيا وأوروبا، مما يجعلها مرشحة لتكون ممرّاً اقتصادياً حيوياً، شرط إعادة تأهيل البنية التحتية وتوفير بيئة آمنة.
الزراعة: سوريا تمتلك أرضاً خصبة، ومناخاً متنوعاً، وقوى عاملة خبيرة. إذا أُعيد تأهيل هذا القطاع، وتم تحديث تقنيات الزراعة والري، يمكن أن تحقق البلاد اكتفاءً ذاتياً غذائياً، بل وتصبح مصدّرة للمنتجات الزراعية.
الصناعات التقليدية والتحويلية: مثل صناعة النسيج والغذائيات والأدوية، وهي قطاعات لها تاريخ طويل، ويمكن إحياؤها عبر دعم حكومي، وتشجيع الاستثمار، وتحسين الطاقة والإنتاج.
التجارة الإقليمية: العلاقات مع الدول الجارة تشكل مفتاحاً لفتح الأسواق، خاصةً إذا تم إنشاء مناطق اقتصادية حرة وممرات تجارية آمنة.
الاقتصاد الرقمي وريادة الأعمال: في ظل انتشار الإنترنت، يمكن دعم مشاريع ناشئة في مجالات التكنولوجيا، والعمل عن بعد، مما يوفر فرصاً جديدة للشباب، ويقلل الاعتماد على الوظائف التقليدية.
ما الذي تحتاجه سوريا لتحقيق المعجزة الاقتصادية؟
لكي تبدأ سوريا طريقها نحو معجزة اقتصادية، يجب:
تحقيق الاستقرار الأمني: فبدون أمن، لا يمكن الحديث عن نمو أو استثمار.
رفع العقوبات تدريجياً: عبر انخراط سياسي إيجابي مع المجتمع الدولي، والانفتاح على محيطها الإقليمي والعربي.
إطلاق خطة اقتصادية شاملة: تشمل إصلاحاً مصرفياً، إعادة هيكلة الدعم، تطوير بيئة الاستثمار، وتحفيز القطاعات الإنتاجية.
إعادة بناء البنية التحتية: إما عبر الشراكات مع القطاع الخاص، أو من خلال قروض تنموية واستثمار مباشر.
دعم التعليم والتدريب المهني: لبناء جيل جديد قادر على قيادة الاقتصاد، وتلبية متطلبات السوق العالمي.
تمكين النساء والشباب: من خلال برامج تمويل ودعم المشاريع الصغيرة، خاصة في المناطق الريفية.
خاتمة
المعجزة الاقتصادية السورية ليست حلماً مستحيلاً، بل هي ممكنة إذا ما اجتمعت الإرادة السياسية، والرؤية الاقتصادية الواضحة، والحوكمة الرشيدة. المسار طويل ومعقد، لكنه ليس مغلقاً. فكما نجحت ألمانيا وكوريا الجنوبية ورواندا وغيرها، يمكن لسوريا أن تنهض من تحت الركام، وتكتب قصة نجاح جديدة، تتجاوز فيها محنة الحرب إلى أفق التنمية والازدهار.
“المعجزة لا تُصنع بقرار، بل تُبنى بإرادة وإدارة.”