شهد مؤتمر باريس (العقبة 3)، المنعقد في 13 فبراير 2025، تطوراً مهماً في المشهد السياسي السوري، حيث وقّعت مجموعة من الدول والهيئات الدولية على بيان مشترك يدعم الحكومة الانتقالية السورية، بينما غابت الولايات المتحدة عن التوقيع، ما أثار تساؤلات حول موقفها الحقيقي من الحكومة الجديدة وآثاره المحتملة على مستقبل سوريا والمنطقة.

موقف الولايات المتحدة بين المراقبة والموافقة الضمنية
رغم أن واشنطن شاركت في المؤتمر بصفة مراقب وبوفد دبلوماسي منخفض المستوى، إلا أن غيابها عن البيان الختامي لم يكن رفضاً قاطعاً للاعتراف بالحكومة الانتقالية، بل يمكن قراءته كموافقة ضمنية، خاصة أن جميع الدول الموقعة هي من حلفاء الولايات المتحدة وشركائها. فباريس نفسها فسّرت الغياب الأمريكي على أنه نتيجة “لعدم وجود سياسة أمريكية محددة تجاه سوريا حتى الآن”، مما يشير إلى أن واشنطن لا تزال تدرس خطواتها المقبلة بعناية.
يرتبط التأخر الأمريكي في الاعتراف بالحكومة السورية الانتقالية بعدة عوامل قانونية وسياسية، أبرزها العقوبات المفروضة على سوريا، والتي يتطلب الاعتراف مراجعتها أو حتى إلغاء بعضها، إلى جانب ضرورة إعادة تصنيف قادة الحكومة الانتقالية لإزالة أسمائهم من قوائم العقوبات. كما أن هناك مخاوف أمريكية بشأن مدى التزام الحكومة الجديدة بتنفيذ عملية انتقال سياسي تلبي مطالب السوريين والمجتمع الدولي، فضلًا عن التزاماتها في مكافحة الإرهاب وضمان أمن دول الجوار ومنع إنتاج المخدرات والاتجار بها.
على الرغم من عدم توقيعها على البيان، لم تتخذ واشنطن أي خطوة فعلية لعرقلة الاعتراف الدولي بالحكومة الانتقالية، وهو ما يختلف عن موقفها الصارم تجاه التطبيع مع نظام الأسد. فمنذ سنوات، أكدت الإدارة الأمريكية رفضها لأي تطبيع مع النظام السوري، وهددت بعقوبات على الدول التي تخالف هذه السياسة. أما فيما يتعلق بالحكومة الانتقالية، فواشنطن تتبع نهجًا أكثر مرونة، ما يفتح الباب أمام إعفاءات محتملة من العقوبات أو تعليق بعضها لدعم الاستقرار الاقتصادي في سوريا.
المتغيرات الجيوسياسية وأولويات واشنطن
لا تُعدّ سوريا أولوية قصوى في أجندة إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، خاصة مع تغير الظروف الإقليمية وتراجع التهديدات المباشرة التي كانت تمثلها سوريا بالنسبة للولايات المتحدة. فقد انخفضت المخاطر الأمنية المتعلقة بالإرهاب، وتراجع النفوذ الإيراني بعد خسارة حلفائه في المنطقة، إضافة إلى الانكسارات الإستراتيجية التي مُنيت بها روسيا في سوريا. ومع ذلك، لا تزال هناك قضايا عالقة، مثل ملف سجون شمال شرق سوريا والمخيمات التي تؤوي عناصر تنظيم “داعش”، والتي ترى واشنطن أنها مسؤولية دولية وليست أمريكية فقط.
رغم القلق الذي أثاره غياب واشنطن عن بيان باريس، إلا أنه لا يتوقع أن تكون هناك تداعيات سلبية كبيرة على الحكومة الانتقالية السورية. فمن المتوقع أن تستمر الولايات المتحدة في نهجها المتريث، مع إمكانية تقديم دعم غير مباشر عبر تخفيف بعض العقوبات والمساهمة في تعزيز الاستقرار الاقتصادي. كما أن الاعتراف الأمريكي، وإن تأخر، سيأتي في النهاية، لكنه قد يستغرق وقتًا أطول بسبب البيروقراطية الأمريكية والتعقيدات القانونية والسياسية المصاحبة له.
خاتمة
إن تأخر الولايات المتحدة عن الاعتراف بالحكومة الانتقالية السورية لا يعني رفضها لهذا المسار، بل يشير إلى نهج حذر ومدروس في التعامل مع الملف السوري. وبينما تستمر الدول الأخرى في دعم الحكومة الجديدة، فإن الاعتراف الأمريكي قد يكون مسألة وقت، مرتبطًا بمدى التقدم الذي تحققه الحكومة الانتقالية في تنفيذ التزاماتها السياسية والأمنية والاقتصادية، ومدى توافق ذلك مع المصالح الأمريكية في المنطقة.