رُبَّ موتٍ كالحَياة
اللواء محمد فارس: رمز من رموز الثورة
نشأته وتعليمه:
ولد اللواء محمد فارس في مدينة حلب عام 1951. نشأ في عائلة وطنية، وكان والده ضابطاً في الجيش السوري. التحق بالكلية الجوية السورية عام 1969، وتخرج منها عام 1972 برتبة ملازم طيار.
مسيرته العسكرية:
خدم اللواء فارس في سلاح الطيران السوري، حيث طار على العديد من أنواع الطائرات الحربية، ونال العديد من الأوسمة والنياشين تقديراً لخدماته.
رحلة الفضاء:
في عام 1987، تم اختيار اللواء فارس ليكون أول رائد فضاء سوري. سافر إلى “محطة الفضاء السوفيتية-مير” على متن مركبة الفضاء “سويوز إم 3” برفقة رائدي فضاء سوفيتيين.
واستمرت رحلته الفضائية سبعة أيام، أجرى خلالها العديد من التجارب العلمية، ليكون أول طيّار سوري والثاني على مستوى الوطن العربي يصعد إلى الفضاء، بعد رائد الفضاء السعودي “سلطان بن سلمان”.
لقد نقل التلفزيون السوري -آنذاك- بثاً حياً للرئيس حافظ الأسد وهو يحاور رائد الفضاء السوري تزامناً مع وجود المركبة الفضائية في مدارها فوق الأراضي السورية. ووصف الرائد فارس لللأسد ما يراه من تضاريس ظهرت فيها هضبة الجولان ورقعة سوريا الخضراء. وقد أنهى الرائد حديثه مع الأسد دون أن يمجدَّ بالرئيس الأسد ويطلق اسمه في الفضاء الكوني، وهذا أغضب الأسد كثيراً لضياع حلمه بأن تحمل طيات الأثير الكوني اسمه ورمزه “القائد الخالد” الذي أدمن الإعلام السوري على اطلاق هذا اللقب كلما ذكر اسم الأسد.
ثأر حافظ الأسد:
بعد عودة رائد الفضاء إلى سورية تمَّ اقصاءه عن مركزه الوظيفي -كعقوبة غير معلنة- صدرت عن حافظ الأسد، حيث بقي تسعة سنوات يجول بين مكاتب السلطة (الجيش والأمن) يسألهم في أي مكتب سيداوم. ومن ثمَّ تم تثبيته في أحد المكاتب الفرعية التابعة لكلية الطيران كمدير إداري (مُهمش) دون صلاحيات تتناسب مع خبرته العالية. وبقي هكذا إلى أن انطلقت الثورة السورية عام 2011. عندها فزع الرائد فارس ليكون فارساً حقيقياً لاستعادة حرية وكرامة الشعب السوري. شارك في المظاهرات المناهضة لنظام بشار الأسد عام 2011. وقد استدعته الأجهزة الأمنية وضيقت عليه حرية تصرفه، مما دعاه ليقرر -إثر ذلك- مغادرة البلاد واللجوء إلى تركيا للإنضمام إلى جمهور الثوار السوريين هناك.
يقول الرائد فارس في إحدى حواراته:
“عندما صعدت للفضاء وهبطت، كان الكلام أن السوريين سيعلمون أبناءهم (بابا ماما محمد فارس)، وأذكر أن كثيراً من مواليد 1987 أطلق عليهم اسم محمد فارس”.
واستكمل متنهداً وبنبرةتنم عن الأسى:
“من هنا كانت النظرة الديكتاتورية، فعمل النظام على حجبي في المنزل 9 سنوات تقريباً، عبر نظام بشار الأسد، وقبله نظام حافظ الأسد، ولذلك ما كان علينا سوى التحلي بالصبر”.
مواقفه الوطنية:
كان اللواء فارس من أوائل الضباط الذين انضموا إلى الثورة السورية عام 2011. شاهد بأم عينه العديد من المعارك ضد المعرضين من المدنيين والمنشقين عن الجيش. ونال احترام وتقدير جميع من عرفه.
يشهد رفاقه الثوار في تركيا بأنَّ همَّهُ الرئيس كان رفع الوعي الوطني عند الثوار وشحذ عزيمتهم خوفاً أن يُصابوا بالإحباط نتيجة الضغوط والتهديدات التي تواجههم من الداخل والخارج أيضاً. وكان يحاول اقناع كل فصائل المعارضة المسلحة ضرورة توحيد صفوفهم، لكنَّ أجوبتهم كانت لا نستطيع لأنَّ من يدعمنا لا يريد ذلك، فإذافعلنا ذلك ستنقطع الموارد عنا فوراً.
إضاءة على شخصيته:
أحد أصدقاء اللواء محمد فارس المقربين “ياسر أشقر” وهو مدرس سابق في جامعة اسطنبول. وعضو مؤسس في رابطة اللاجئين السوريين، وناشط في مجال حقوق الإنسان، ومن مؤسسي منصة (سيرياوايز) ويعيش حالياً في ميشيغان بالولايات المتحدة الأمريكية، أجرى حواراَ صحفياً مع صديقه فارس، نقتطف منها بعض الاقتباسات التي تضيء على شخصية اللواء محمد فارس:
” كما تعلمون، أنا أحاضر هنا في تركيا. أقوم بإلقاء محاضرات في المدارس والجامعات والمراكز العلمية. قد أتعرض لأية أسئلة، لذا يجب أن أبقي نفسي على اطلاع دائم على الإنجازات المهمة في علوم الفضاء”.
بالنسبة لي طبعا عشت في سوريا (22 عاماً) بعد رحلتي إلى الفضاء ولفترة طويلة عانيت كثيرا. معظم الشعب السوري يعرف معاناتي في سوريا. بعد انتفاضة الشعب السوري المطالب بالحرية رأيت القمع والقمع والقتل العشوائي للرجال والنساء والأطفال والشيوخ. ولهذا السبب قررت مغادرة بلدي حتى تكون كلمتي حرة. حتى أتمكن من التعبير عن آرائي بحرية. وبالطبع، على الرغم من أنني أتيت إلى تركيا كلاجئ، إلا أن مبادئي وقيمي لم تتغير. كان ذلك من أجل حريتي وكرامتي. كل شيء يستحق التضحية به، من أجل الحرية والكرامة لعائلتي وشعبي في سوريا.
سأله ياسرالاشقر: بينما كنت لا تزال تعيش في سوريا، هل فكرت يوماً في إنشاء مركز تعليمي أو معهد فضائي حتى يتم نقل تراثك إلى الشباب السوري؟
أجاب:
“عندما كنت في سوريا كنت أفكر كثيراً واقترحت على المسؤولين إنشاء كلية لعلوم الفضاء والفلك بالإضافة إلى مركز فلكي وقبة فلكية. لكن لسوء الحظ، اصطدمت بكل هذه الأفكار بحائط من الطوب، لأن نظام الأسد لا يريد التعليم العلمي. النظام يريد الجهل بالشعب السوري، حتى تسهل السيطرة عليه، حتى أنني حاولت الحصول على مرصد، لكن لم يكن هناك أي دعم من أي شخص في نظام الأسد. خلال تلك الفترة في سوريا، كنت ألقي محاضرات بمفردي لشباب جمعية الفلكيين والجمعية الكونية السورية، وذلك لتشجيعهم وتمكينهم. وللأسف النظام الحالي ضد التعليم والمتعلمين ويريد أن يحكم الجهلة”.
سؤال آخر: كلمة مير باللغة الروسية تعني السلام. هل تعتقد أن السلام سيعم يوماً ما في وطنك الأم سوريا؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف ومتى؟
أجاب:
“كلمة “مير” بالروسية، تعني في الواقع “السلام” و”العالم”، وبالطبع أنا متفائل دائماً، وأي شخص قارئ جيد للتاريخ سيعرف أن الطغيان والاحتلال لا يدومان إلى الأبد. ولهذا السبب أنا متفائل بأن سوريا ستعود أجمل وأقوى من أي وقت مضى بشعبها الذي طالب بالحرية وقدم الكثير من التضحيات من أجلها. وبالطبع، يعلم الجميع أن العديد من السوريين قتلوا وجرحوا، ونزح الملايين قسراً إلى خارج البلاد. من المؤكد أن هؤلاء الأشخاص سيصنعون مستقبلًا عظيمًا لسوريا. كيف ومتى؟ لا أستطيع التنبؤ بذلك، لكني متفائل دائمًا بشأن العودة”.
وجاءت إجابة الرائد محمد فارس على سؤال ورد في الحوار. لو أتيحت لك الفرصة للتحدث مع أكثر شخص مؤثر في العالم، من سيكون وماذا ستقول؟
“أينما ذهبت أتحدث عن مشاكل الشعب السوري حتى في وسائل الإعلام. ليس لدي شخص محدد لأن صاحب القرار في هذا العالم للأسف غير معروف. ولو التقيته سأوجه له رسالة: نحن الشعب السوري ساعدنا في بناء التاريخ. نحن بنينا الحضارة، وأقدم مدينة في العالم في سوريا، عمرها 12500 سنة. كلمة سوريا تعني “سيدة”. نحن لسنا تافهة. وأود أن أقول إنه مهما كانت نواياكم السيئة تجاه سوريا، فلن تنتصروا. ولهذا السبب أتمنى منكم الوقوف مع الشعب السوري. لم نقم انتفاضتنا من أجل إسقاط نظام الأسد فحسب، بل من أجل الحرية والكرامة أيضًا. وهذا المطلب لجميع المضطهدين في كل أنحاء العالم. وهو مطلب أخلاقي وإنساني. مرة أخرى أود أن أخاطب هذا الشخص وأقول، إذا كان لديك أي قوة، كفى ظلماً بحق الشعب السوري. لأنه في النهاية عليك أن تقف أمام الله”.
وانتهى الحوار بقول الرائد فارس:
“أفتقد الأحياء التاريخية القديمة. أفتقد التجول في شوارع تلك الأحياء. آه أن أجلس في شارع حيي القديم وأرى أهله البسطاء. لا يزال لدي أمل في العودة إلى المدينة وإعادة بنائها معاً”.
تنويه: الحوار كاملاً باللغة الإنكليزية على رابط منصة (syriawise.com).
وفاته:
توفي اللواء محمد فارس في مدينة غازي عنتاب التركية في 19 أبريل 2024، عن عمر يناهز 73 عاماً، إثر وعكة صحية مفاجئة.
إرثه:
يُعتبر اللواء محمد فارس رمزاً من رموز الثورة السورية، ونموذجاً يحتذى به للأجيال القادمة. فقد كان بطلاً شجاعاً، ووطنياً مخلصاً، وقائداً ملهماً.
ملحوظة: لقد استجابت زوجة الفقيد السيدة هند عقيل طلب محبي الفقيد لإرجاء موعد الجنازة حتى يوم الأحد 28/نيسان/2024 ليتسنى لجمهور الفقيد المشاركة في مراسم التشييع، ولم يحدد المكان بعد، ويمكن أن يتم تعديل الموعد أيضاً.
البقاء لله وحده، ولا حول ولا قوة إلا بالله.