تتوارد في ذاكرة السوري المهتم بالتاريخ وأيامه ومناسباته ثلاث تقاطعات ليوم الثامن من آذار. أوسطها عالمي (يوم المرأة) وطرفاها خاصان بسوريا تكوين الدولة والتحول السياسي.
ربما سيكون أكثر رواجاً بينها، إن سألت أي متعلم في سوريا، ما ارتبط بما سماه البعث ثورة في مثل هذا اليوم قبل ستين عاماً بالتمام، ونسبها إليه وإلى قادته العسكريين تحديداً ورأسهم (حافظ الأسد) الذي لا يمكن أن يمر اسمه مجرداً في مناهج النظام غير مسبوق بكل صفات التعظيم وألقاب الحكمة والإلهام. لكن المغيّب عن الذكر والتاريخ ما له الأولوية في تاريخ سوريا المعاصر ويوم إعلانها دولة. لا شك أن سوريا الجغرافيا والشعب كانت منذ فجر التاريخ الواعي مهد حضارات متعاقبة، لكنها ما كانت دولة مستقلة بهذا المسمى(سوريا) إلا في 8 آذار 1920.
لم تكتف مناهج البعث وواضعوها من حجب ذلك اليوم عن ذاكرة السوريين، بل غيّبت أيضاً الآلية السياسية التي تم فيها إقرار أول دستور سوري تم إنجازه، وبعد ثلاثة مؤتمرات لـ (المؤتمر السوري العام) المؤلف من ممثلين منتخبين من الشعب بضوابط وعلى مرحلتين، لتتوج في ذلك اليوم بإعلان الدستور وإعلان دولة سوريا مملكة دستورية بمسمّى (المملكة السورية العربية).
ما غيّبه البعث أيضاً بعد ثورته المزعومة، ولترسيخ الدكتاتورية وعبادة الفرد، أن صلاحيات الملك كانت محدودة وأن الدستور لم يعطه حق اتخاذ أي قرار مصيري، بل جعلها في يد السلطة التشريعية على الرغم من امتعاض الملك، ثم احتجاجه بأن الدستور جعل سلطته رمزية وبروتوكولية، لكن الآباء الدستوريين كانت لهم الكلمة الفصل ليكون ذلك الدستور الذي أنتجته النخب المنتخبة موضع احترام وتقدير بشهادة المؤرخين وخبراء القانون والدساتير غرباً وشرقاً.
المؤتمر السوري العام الذي أنتج الدستور الأول للدولة السورية تم انتخاب أعضائه بالطريقة الديمقراطية التي أقرت منذ إحداث مجلس (المبعوثان) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والذي كان ينص على اختيار النواب على مرحلتين، الأولى يختار فيها المواطنون البالغون بشكل مباشر ممثلين عنهم، والثانية ينتخب فيها المنتخبون في المرحلة الأولى نائبهم للمجلس بنسبة نائب لكل خمسين ألفا، وهي طريقة ما زال ينظر إليها دارسون على أنها تحصين للديمقراطية من انجراف نحو الشعبوية. أما في المؤتمر السوري العام، ولتسريع عملية انعقاد المؤتمر ومضايقة البريطانيين في فلسطين والفرنسيين في الساحل السوري الذي وُجدت قواتهم فيه فتمت عملية الانتخاب بمرحلتها الثانية في سائر البلاد (بلاد الشام) واعتمد نظام التوكيل في المناطق التي منع البريطانيون والفرنسيون فيها الانتخابات.
النظرة إلى أسماء من كان في اللجنة الدستورية، وإلى أسماء أكثر من مئة ممن مثّل السوريين انتخاباً في مؤتمرهم العام قبل أكثر من مئة عام، من أعلام السياسة والفكر والقانون والتشريع، وما حفلت به جلساتهم في مناقشة المواد المقترحة مادةً مادة وبدقة وتفصيل للوصول إلى الصيغة الأخيرة، تعطي تصوراً عما كانت النخب عليه من مسؤولية ومدى أهليتهم ليكونوا بحق (رجال دولة) يتطلعون باستبصار لتأسيس دولة مدنية متحضرة، وما يجعل الدارس أو المطلع متأسيّاً على واقع فرضه العسكر بعد عقود عندما تقافزوا بالانقلابات إلى سدّة الحكم والتحكم بمصير شعب ووطن، ومن استخدموهم لكتابة دساتير مفصلة على الحكام يخجل حتى الجاهل من بعض ما فيها، خاصة ما كان منها بعد 8 آذار 1963 وما استجره عسكر البعث من ويلات انتهت بمهزلة توريث طُوّع لها دستور يتخذ ذريعة حين الحاجة ثم لا يُعمل بما فيه على عِلله.
ما يأتي إلى الذاكرة من توارد وربطها بين التقاطعات الثلاثة لمناسبات اليوم، يستدعي عن المرأة في يومها العالمي ذِكرَ ما كان من نقاش مستفيض في جلسات مطولة للمؤتمر السوري العام، على مدار يومين، عن منح المرأة المتعلمة حق الانتخاب، وهو ما لم يكن حينذاك مطبقاً في معظم دول العالم إلا ندرة، وكاد أن يرى النور دستورياً لولا حذرُ من المرجحين بأن يفتح لجدته وريادته أبواباً للمتربصين في مرحلة تأسيس الدولة، فكان الرأي المرجح بتأجيل إقراره دون طيِّه، ولو تم لجعل ذلك الدستور رائداً بين أول عشر دول في العالم بأجمعه أقرت ذلك الحق للمرأة، وسابقاً لكثير من الدول الأوروبية ومنها فرنسا (بلد الحريات التي احتلتنا) وسواها كثير.
تأسيس الدولة السورية لأول مرة بمسمّاها في مثل هذا اليوم 8 آذار، قبل مئة وثلاثة أعوام، وإنجاز دستور متقدم في مدة زمنية قياسية ضمن ظروف صعبة جدا بعد حرب عالمية، والمحتلون المتقاسمون لغنائمها على الأبواب بل وفي المنافذ، لا يجعلنا في موضع المقارنة فقط ولا البحث عن تغييبات عسكر البعث لتلك الذكرى الوضّاءة في تاريخنا الحديث، ولا ما سرقه أولئك ممن شاركهم التغيير فيما سموه ثورة قبل ستين عاماً بالتمام، ولا ما فعله حزبهم بما آل إليه عبر تعريفه عن ذاته منذ التأسيس بأنه (انقلابي) فغدت انقلاباته في داخله وعلى أهدافه الأساسية التي بات المطبق منها نقيضها، متحولة على الرغم من توسعه الأفقي، إلى منظومة نفعية مستمرة إلى اليوم بواقع معطوب من داخله وبافتقاد لأي موقع قيادة حقيقي أو صنع للقرار بما أنتجه من دكتاتورية تحتمي بمنظومة أمنية تجاوزت مفهوم الدولة الأمنية إلى (الدولة المتوحشة) وبتشبث (مافيوي) وإن فوق الخراب. بل إن ذلك التأسيس في ذكراه بعد أجيال يجعلنا نتساءل أيضاً، ومع إطلالة الذكرى الثانية عشرة لثورة الشعب السوري على ذلك الواقع وتلك المنظومات، وبعد كل التضحيات وما حل بالوطن والشعب من وضع كارثي، عن عدم استطاعة الثورة حتى الآن تقديم نخبها، على كثرتهم فرادى، ليكونوا (رجال دولة) وفي طليعة من يؤسس لوطن مرتجى.