في تطور جديد يحمل دلالات عسكرية وسياسية عميقة، كشفت وكالة “رويترز” عن استعداد الولايات المتحدة لتأسيس وجود عسكري داخل قاعدة جوية في العاصمة السورية دمشق، في خطوة وُصفت بأنها تعكس مرحلة جديدة من إعادة تشكيل النفوذ داخل الساحة السورية بعد التحولات الجذرية التي شهدتها البلاد خلال العام الماضي، مع سقوط نظام بشار الأسد وتبدّل موازين القوى في المنطقة.
وفقاً لستة مصادر مطلعة، فإن واشنطن تعمل على إنشاء وجود عسكري فعّال داخل القاعدة بهدف تمكين تنفيذ اتفاق أمني تتوسط فيه بين سوريا وإسرائيل، وهو ما يُعد مؤشراً على تحوّل استراتيجي في السياسة السورية الخارجية بعد سنوات من الارتباط الوثيق بمحور طهران.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة تشي بمحاولة دمشق الجديدة استعادة موقعها كدولة ذات سيادة متوازنة بين القوى الكبرى، مع الانفتاح على تفاهمات أمنية تضمن الاستقرار جنوب البلاد وتعيدها إلى الخارطة السياسية الإقليمية من بوابة واشنطن.
المصادر ذاتها أكدت أن القاعدة الجديدة ستُستخدم لأغراض مراقبة الاتفاق الأمني المحتمل بين إسرائيل وسوريا، إضافة إلى مهام الخدمات اللوجستية والتزود بالوقود والعمليات الإنسانية، مع بقاء السيادة الاسمية للدولة السورية على المنشأة.
ووفق تقارير ميدانية، فقد أرسلت الولايات المتحدة طائرات نقل من طراز C-130 لاختبار صلاحية المدرج، كما أجرى البنتاغون خلال الشهرين الماضيين عدة مهام استطلاعية متقدمة، أكدت جاهزية البنية التحتية لاستقبال قوات محدودة خلال الفترة المقبلة.
التحرك الأميركي في دمشق لا يمكن قراءته بمعزل عن البيئة الأمنية الإقليمية التي تتسم بتصاعد التوتر بين طهران وتل أبيب، وتزايد النشاطات الإيرانية في العمق السوري.
ويبدو أن واشنطن تسعى من خلال هذا الوجود الرمزي–العملي إلى ترسيخ نفوذ مراقَب يحدّ من تمدد القوى الإيرانية ويمنحها موقعاً متقدماً في مفاوضات إعادة رسم خرائط النفوذ، خاصة مع احتمال قيام منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري ضمن الاتفاق الجاري التفاوض حوله.
خطوة على خطى النماذج السابقة
الخطط الأميركية الجديدة تشبه من حيث الشكل والوظيفة وجودين عسكريين أميركيين آخرين في المنطقة: أحدهما في لبنان لمراقبة وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، والآخر في إسرائيل لمتابعة الهدنة مع حركة حماس.
ويُعتقد أن القاعدة الدمشقية ستكون جزءاً من شبكة مراقبة إقليمية متعددة الأطراف، هدفها الإشراف على الترتيبات الأمنية وضمان التزام جميع الأطراف بالاتفاقيات.
ورغم التقدم الفني في تجهيز القاعدة، ما زالت المحادثات السياسية متعثرة، إذ تمارس واشنطن ضغوطاً متزايدة على الحكومة السورية الجديدة لتوقيع الاتفاق الأمني قبل نهاية العام، في وقت يتردد فيه أن الرئيس السوري أحمد الشرع يعتزم زيارة واشنطن خلال تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
تأجيل الإعلان عن الاتفاق خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي يعكس تبايناً في المواقف حول الضمانات الأمنية وطبيعة الوجود الأميركي، وهو ما يجعل القاعدة الجديدة ورقة ضغط تستخدمها واشنطن لتحقيق تقدم سياسي على الأرض.
خاتمة: ما بين السيطرة والمراقبة
يبدو أن الخطوة الأميركية ليست مجرد تموضع عسكري محدود، بل إشارة إلى مرحلة انتقالية في الصراع السوري. فدمشق، التي كانت لعقد من الزمن ساحة صراع دولي مفتوح، تتجه اليوم نحو تسوية تُدار من داخلها لا من خارجها.
وجود عسكري أميركي في العاصمة السورية، ولو رمزي، يعني أن مركز القرار السياسي والعسكري بات في قلب دائرة التفاهمات الدولية، وأن ما يجري ليس مجرد إعادة انتشار، بل إعادة صياغة لمعادلة النفوذ في المشرق العربي بأبعاده الأمنية والسياسية والاستراتيجية.












