في زمنٍ ليس ببعيد، كانت كلمة “الفرع” كفيلة بأن تُخرس الألسن وتُجمّد القلوب. لم يكن السوري يحتاج إلى تهمة ليخاف، فمجرد التلميح بوجود “فرع أمني” قريب كان كافياً ليزرع الرعب في النفوس. هكذا عاش السوريون لعقود تحت ظلّ نظام جعل الخوف أداة حكم، والرعب وسيلة طاعة، والمخابرات وجهاً من وجوه الحياة اليومية.
لكنّ ما يؤلم اليوم هو أن آثار ذلك الخوف لم تندثر تماماً، بل ما زالت تتسلّل بين بعض الناس، حتى بين من يرفعون راية الثورة والتغيير، فيعيدون إنتاج ما ثاروا عليه، من تهديدٍ وترهيبٍ واستعلاءٍ على الآخرين باسم السلطة أو النفوذ أو الانتماء.
النظام الذي حكم سورية لعقودٍ طويلة لم يكن يعتمد على القانون بقدر ما اعتمد على الخوف. فروع الأمن كانت تمتد إلى كل حيٍّ وشارعٍ ومؤسسة، حتى بات المواطن يعيش تحت رقابةٍ غير مرئية، يخشى أن يُساء فهم كلماته أو يُساء تفسير سكوته.
عباراتٌ مثل “انتبه، في حدا سامع” أو “الجدران لها آذان” لم تكن مجرّد أمثالٍ دارجة، بل كانت واقعاً يعيشه الناس. لقد نجح النظام في أن يجعل الخوف جزءاً من تكوين الإنسان السوري، فلا أحد في مأمنٍ من الشك أو الوشاية أو العقاب.
ولم يكن الهدف حماية الوطن أو حفظ النظام العام، بل حماية منظومةٍ ترى في المواطن خصماً محتملاً، وتتعامل معه على أساس الشك لا الثقة. وهكذا تحوّل الأمن إلى سيفٍ مسلّط على الرقاب، بدل أن يكون درعاً يحميها.
حادثة تفضح بقايا الذهنية القديمة
مؤخراً، أثارت حادثةٌ في دمشق جدلاً واسعاً، حين أقدم أحد المواطنين على تهديد شرطي مرورٍ بقوله: “أنا استخبارات ولاك“، محاولاً تخويفه ومنعه من أداء واجبه. لكن المفارقة الجميلة كانت في ردة فعل الشرطي، الذي لم ينجرّ إلى الخوف أو التراخي، بل التزم بالقانون وضبط نفسه، فاستحق التكريم من قيادته تقديراً لموقفه المهني.
تلك الحادثة، رغم بساطتها، كشفت أن بقايا الذهنية الأمنية لا تزال حاضرة في بعض النفوس؛ فهناك من ما زال يعتقد أن ذكر “الاستخبارات” أو “الفرع” كافٍ ليُرعب الآخرين ويجعلهم يرضخون. إنها ذهنيةٌ وُلدت في عصورٍ سوداء، لكنها لا تليق بسورية التي نحلم بها. السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يجب أن نتخلّص من هذه الثقافة؟
لأنها تقتل الكرامة: لا يمكن لإنسانٍ أن يكون حرّاً وهو يعيش تحت تهديدٍ دائم. الكرامة الإنسانية لا تزدهر إلا في مناخٍ من الأمان والثقة، لا في ظلّ الخوف والرهبة.
لأنها تُفسد علاقة المواطن بالدولة: حين تتحول الأجهزة الأمنية إلى فزّاعةٍ بدل أن تكون حاميةً للناس، تنكسر جسور الثقة بين المواطن ومؤسسات بلده.
لأنها تعيق التقدّم: مجتمع الخائفين لا يبدع ولا ينهض. الخوف يُطفئ الفكر ويُقيد العمل ويُميت الإرادة.
لأنها تُورّث الانقسام: استمرار لغة التهديد والتخويف بين أبناء الوطن الواحد يعمّق الكراهية ويفسد روح التكاتف المطلوبة لبناء المستقبل.
نحو سورية جديدة… لا مكان فيها للخوف
التحرّر من إرث الخوف لا يكون بالشعارات، بل بالعمل الجاد على تغيير العقليات قبل القوانين.
إصلاح الأجهزة الأمنية: واجب وطني، يبدأ من إعادة تعريف دورها لتكون في خدمة المواطن، لا أداةً لترويعه.
ترسيخ ثقافة المواطنة: يجب أن يعلم كلّ سوري أن لا أحد فوق القانون، وأن الانتماء للوطن أهم من الانتماء لأي فرعٍ أو جهة.
نشر قيم الشفافية والمساءلة: فلا حصانة لأحدٍ إذا أخطأ، ولا مكرمة إلا للملتزم بالقانون والعدل.
بناء ثقة جديدة: بين الدولة والمجتمع، أساسها الاحترام المتبادل، لا الخوف المتبادل.
خاتمة
لقد قامت الثورة السورية من أجل الكرامة لا من اجل الخبز، ومن أجل الحرية قبل السياسة. والحرية لا تكتمل ما دام فينا من يلوّح بعبارة “أنا استخبارات” أو يستمدّ سلطته من الترهيب.
سورية الحرة التي نحلم بها هي التي يكون فيها رجل الأمن خادماً للقانون، والمواطن شريكاً في بناء الدولة، والاحترام هو اللغة الوحيدة بين الجميع.
لنبدأ بأنفسنا، فنطهّر داخلنا من رواسب الماضي، ونؤمن أن الخوف لا يصنع أمناً، وأن الترهيب لا يصنع وطناً. فكما قال أحد المفكرين: من يزرع الخوف لا يحصد إلا الخراب.
ولنزرع نحن، بدلاً من ذلك، شجرة حريةٍ تمتد جذورها في الأرض السورية، وتسقيها كرامة الإنسان، ليكبر وطنٌ لا يخاف أبناؤه، بل يفتخرون بالانتماء إليه.











