تشهد الساحة السورية هذه الأيام حالة من الغليان السياسي والعسكري مع تزايد الحديث عن احتمال فتح جبهات جديدة في شمال شرقي البلاد، تحديداً في محافظتي الرقة ودير الزور، حيث تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” بدعم أميركي. ورغم أن هذه الأنباء لا تزال ضمن خانة التقديرات والتسريبات، إلا أن ما يجري على الأرض يشير إلى أن المشهد يسير نحو منعطف مفصلي قد يغيّر موازين القوى بشكل كبير.
التحركات العسكرية الأخيرة في البادية السورية، والتي ترافقت مع تقارير عن حشود تتجاوز خمسين ألف مقاتل قرب تدمر، عززت من احتمالية أن تكون دمشق بصدد التحضير لعملية واسعة النطاق. ويبدو أن هذه التحركات لا تنفصل عن السياق الإقليمي والدولي المعقد، حيث تتقاطع فيه مصالح الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران، فضلاً عن حساسية الملف بالنسبة لإسرائيل التي تراقب بدورها أي تحرك عسكري قد يمتد إلى مناطق قريبة من حدودها.
وفي خضم هذه المعادلة الشائكة، تقف “قسد” أمام ضغوط متزايدة؛ فالمفاوضات التي رعتها واشنطن وباريس لم تحقق تقدماً ملموساً، في وقت تزداد فيه الدعوات الدولية لتسليم السدود والمعابر وحقول النفط لدمشق، ما يفتح الباب أمام مواجهة محتملة إذا لم تُترجم التفاهمات السياسية إلى خطوات عملية.
حشود في البادية ومهلة ضاغطة
مؤشرات ميدانية عديدة تدعم فرضية العمل العسكري. فقد رُصد تجميع نحو خمسين ألف مقاتل قرب مدينة تدمر، مع تجهيز نقاط انطلاق باتجاه الشمال، بالتزامن مع دعم معلن من بعض العشائر العربية. وتؤكد مصادر مطلعة أن المهلة الممنوحة لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) لتنفيذ اتفاق العاشر من آذار والاندماج ضمن مؤسسات الدولة السورية باتت تقترب من نهايتها، وسط تحذيرات بأن الغطاء الدولي لهذه القوات لن يستمر طويلاً في حال تعثرت التسوية.
على المستوى السياسي، لا تزال المحادثات التي ترعاها واشنطن وباريس بين دمشق و”قسد” تراوح مكانها. فالأخيرة ترفض تسليم ملفات سيادية حساسة، مثل السدود والمعابر وحقول النفط، ما يزيد من احتمالات التصعيد العسكري. ويشير محللون إلى أن تشدد “قسد” يعكس انقسامات داخلية، بين تيار يرفض الاندماج مع دمشق، وآخر يخشى فقدان الدعم الأميركي إذا استمر المماطلة.
المحلل السياسي د. حمزة المحيمد يرى أن المنطقة بمكونها العام عربية، وأن غالبية مقاتلي “قسد” هم من أبناء العشائر، ما يجعل أي مواجهة ميدانية قصيرة الأمد محسومة لصالح دمشق. ويؤكد أن التحشيد الجاري يترافق مع تفاهمات إقليمية، أبرزها الاجتماع الثلاثي في أنقرة الذي منح مهلة زمنية لا تتجاوز ثلاثين يوماً لتسليم المنطقة للحكومة السورية، وهي مهلة توشك على الانتهاء.
أما العميد إسماعيل أيوب، المحلل العسكري، فيرى أن الجبهة في شمال شرقي سوريا مفتوحة منذ سنوات، لكنها اليوم تزداد وضوحاً مع تعزيز الجيش السوري لقواته على طول خطوط التماس. ويشير أيوب إلى أن أي مواجهة شاملة ستُظهر تفوق دمشق العددي والنوعي، خاصة إذا تراجع الغطاء الأميركي عن “قسد”، ما قد يدفع مكونات عربية واسعة داخلها للانحياز إلى الدولة السورية.
في المقابل، يذكّر الكاتب علي أسمر بأن الرؤية التركية القائمة على مبدأ “تركيا بلا إرهاب” تدفع بقوة نحو إنهاء وجود “قسد” وامتداداتها. ويعتبر أن الولايات المتحدة لن تدخل في مواجهة مباشرة مع دمشق أو أنقرة من أجل حماية فصيل مسلح، خاصة أن الخطاب الأميركي الأخير شدد على أن لا فيدرالية في سوريا، وأن الخيار الوحيد أمام “قسد” هو العودة إلى دمشق.
مصادر أمنية سورية تحدثت لـذا ناشونال عن أن الهجوم قد ينطلق بحلول تشرين الأول المقبل إذا لم تسلّم “قسد” مناطق سيطرتها، على أن يتم من عدة محاور، وبمشاركة فصائل انضمت حديثاً إلى تشكيلات الجيش السوري. لكن المصادر ذاتها شددت على أن العملية لن تبدأ من دون ضوء أخضر أميركي وضمانات بتجنب أي تدخل إسرائيلي مباشر.
خلاصة
تقف سوريا اليوم على مفترق طرق حساس. فبين الحشود العسكرية التي تقترب من خطوط التماس، والتفاهمات التي ما تزال متعثرة، يبدو أن الساعات المقبلة ستحدد إن كان المشهد يتجه نحو تسوية سياسية شاملة، أم نحو مواجهة عسكرية واسعة قد تعيد رسم خريطة النفوذ في شمال شرقي البلاد.