منذ انطلاقة الثورة السورية المباركة في ربيع عام 2011، خاض الشعب السوري بجميع مكوناته نضالاً طويلاً من أجل الحرية والكرامة وتأسيس دولة مدنية عادلة تقوم على القانون والمواطنة. وعلى مدى سنوات، ورغم القمع العنيف والتضحيات الجسيمة، ظلّت المطالب الشعبية واضحة: دولة سيّدة مستقلة تحترم حقوق الإنسان وتكفل العدالة لجميع أبنائها. لم تكن الثورة مجرد حراك سياسي عابر، بل كانت تعبيراً عن رغبة عميقة في إعادة صياغة الهوية السياسية والدستورية لسوريا، بعد عقود من الحكم الفردي والاستبداد.
ومع نهاية عام 2024، وبدء مرحلة انتقالية تاريخية عقب اسقاط رأس الاجرام بشار وتشكيل قيادة وطنية جديدة برئاسة أحمد الشرع، دخلت سوريا فصلاً جديداً من نضالها، عنوانه: بناء الدولة. وفي قلب هذا المشروع الوطني يبرز التحدي الأكبر: توحيد البنية السيادية للدولة السورية، بعد عقود من التشظي الإداري والسياسي.
لقد أدرك السوريون أن استعادة القرار الوطني لا تكون فقط بطرد الاستبداد، بل بإعادة تأسيس الدولة على قواعد جديدة تحصّنها من العودة زمن الاستبداد والحكم بالحديد والنار أو التبعية للخارج، وتنطلق من إرادة الشعب لا من فوقه. ومن هنا، بدأ العمل على بناء منظومة سيادية حديثة ترتكز إلى دستور قوي، ومؤسسات شفافة، وإرادة وطنية جامعة، تمهد الطريق نحو دولة تمثل جميع السوريين دون تمييز أو إقصاء.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل ملامح هذه البنية السيادية الجديدة، من خلال استعراض التطورات الدستورية والمؤسساتية منذ عام 2025، وتقييم مدى نجاح مشروع توحيد السلطة والسيادة في ظل التحديات السياسية والاجتماعية، وموازين القوى المحلية والدولية. كما تسلط الضوء على أهمية هذا المسار في تحقيق تطلعات الثورة السورية المباركة، وترسيخ أسس الدولة المدنية الديمقراطية.
1. الأساس الدستوري والسيادة
في 13 مارس 2025 أصدر الشرع الإعلان الدستوري المؤقت الذي ينص على أن الجمهورية “سورية عربية موحدة” ذات سيادة كاملة ولا يمكن التفريط بأرضها.
الإسلام هو دين الرئيس، وتُعدّ “الاجتهادات الشرعية الإسلامية” المصدر الرئيسي للتشريع، رغم التأكيد على حرية المعتقد واحترام القوانين الشخصية للأقليات الدينية.
2. المؤسسات السيادية: السلطة التنفيذية
النظام “رئاسي مطلق”: الرئيس يحتكر السلطة التنفيذية، يعين الوزراء، ويقترح القوانين ويحقّ له رفض القوانين القادمة من البرلمان؛ ويخضع الوزراء فقط لرئيس الدولة وليس للبرلمان.
لا يوجد منصب رئيس حكومة مستقل (لا رئيس وزراء)، مما يعمّق تركيز السلطة التنفيذية تحت سلطة واحدة.
3. المؤسسة التشريعية: المجلس الشعبي (البرلمان)
تشكيل البرلمان يتم بطريقة مختلطة: ثلث المقاعد يعيّنها الرئيس مباشرة، والباقي (66.7%) يُنتخب عبر لجان انتخابية تشرف عليها لجنة يرأسها وهيئة يختارها رئيس الدولة.
البرلمان لديه صلاحية طرح الأسئلة واستدعاء الوزراء، وقد وافق على تمديد حالات الطوارئ أو رفضها، لكنه يواجه شكليات رقابية محدودة كون المجلس مزيج من التعيين والانتخاب.
4. المجلس الأعلى للأمن القومي
أنشئ في 12 مارس 2025 كهيئة أمنية عليا ترأسها الدولة وتضم مؤسسات الدفاع والداخلية والاستخبارات. يتمتع بسلطة القرار في الشؤون الأمنية والتنظيمية للهياكل العسكرية والمدنية، ويتم تشكيله بأجهزة رسمية تحت إشراف الرئيس مباشرة.
5. السلطة القضائية
القضاء مستقل نظرياً، ويشرف عليه “المجلس الأعلى للقضاء” الذي يضمن استقلاله، مع حظر إنشاء محاكم استثنائية.
تم حلّ المحكمة الدستورية العليا السابقة وتشكيل هيئة دستورية جديدة مؤلفة من 7 قضاة يعينهم الرئيس مباشرة، دون موافقة البرلمان.
6. العدالة الانتقالية والمصالحة
في 17 مايو 2025 صدر المرسوم الرئاسي رقم (20) لتشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” برئاسة عبدالباسط عبد اللطيف، بغرض كشف الحقيقة، ومحاكمة المتورطين، وتقديم التعويضات، وتعزيز المصالحة.
الانتقادات تشير إلى أن تركيز الهيئة لا يشمل ضحايا المعارضة، مما يثير تساؤلات بشأن حيادها وشموليتها.
7. الاتفاق مع الإدارة الذاتية الكردية
في 10 مارس 2025 وقع الشرع اتفاقًا مع مظلوم عبدي يشمل:
الاعتراف الكامل بالمكون الكردي وحقوق المواطنة.
دمج مؤسسات الإدارة الذاتية في مؤسسات الدولة، بما في ذلك المعابر والمرافق الحيوية.
ضمان الأمن وإعادة النزوح ووقف إطلاق النار.
8. التحديات والانتقادات
قادة الأقليات المسيحية أشاروا إلى أن عملية صياغة الدستور لم تكن شاملة أو تمثيلية بما فيه الكفاية، مطالبين بحوار وطني حقيقي وشامل.
تجمعات الأقليات اشتكوا من أن الإعلان الدستوري لم يعترف بالشعوب كالآشوريين والسريان، وطالبوا بإدماجهم الكامل في الدولة السورية الجديدة.
تقارير غربية (مثل Financial Times وGuardian) تعبّر عن مخاوف متزايدة من تصاعد العنف الطائفي وغياب ثقة المواطنين بالمؤسسات الجديدة، وذلك في ظل تركيز السلطة وتحت تهديد انسحاب الدعم الدولي إذا لم تتحقق الشفافية والعدالة.
9. آفاق التحول نحو دستور دائم
من المنتظر أن تبدأ العملية الفعلية لصياغة دستور دائم بعد الانتخابات التشريعية في سبتمبر 2025، وهي انتخابات ستجرى لأول مرة منذ سقوط النظام السابق.
الضغط المحلي والدولي يتزايد لإشراك جميع مكونات المجتمع السوري في مسودة الدستور، بهدف الوصول إلى عقد تأسيسي يعكس التعدد والعدالة ويضع المواطن أساسًا للسلطة.
يبقى التحدي الأكبر هو بناء دولة سيادية حقيقية تقوم على التعددية والمشاركة والمحاسبة المؤسسية، مع ضرورة إشراك المواطنين كلها لاحقاً في صياغة دستور دائم يضمن مستقبلاً شاملاً وسليماً للجميع.