تشهد الساحة السورية منذ أشهر حراكاً إقليمياً متضاداً، يتمثل في صراع بين توجهين رئيسيين يسعيان إلى رسم ملامح مستقبل سوريا، أحدهما تقوده السعودية وتركيا ويهدف إلى دعم وحدة سوريا واستقرارها، والآخر تتزعمه إسرائيل ويسعى إلى تقويض السلطة المركزية ودفع البلاد نحو التفتيت، تحت ذرائع طائفية وأمنية. وفي ظل هذا التجاذب، تبرز تساؤلات مشروعة حول موقف إدارة ترمب السابقة من هذا الصراع، وما إذا كانت ستنحاز إلى أحد الطرفين أو ستظل تمسك العصا من المنتصف.
تُخفي إسرائيل في الظاهر قلقها من عودة النفوذ الإيراني في سوريا، لكنها في العمق تبني سياستها على رفض عودة سوريا دولة موحدة وذات سيادة. وهذا ما عبّر عنه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر الذي أكد علناً توجه تل أبيب نحو التحالف مع الأقليات في سوريا والمنطقة. وقد عززت تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس براك هذا الاتجاه، حين كشف بعد أحداث السويداء الأخيرة عن رغبة إسرائيلية واضحة في بقاء سوريا مجزأة.
التصعيد الإسرائيلي في محافظة السويداء لم يكن منعزلاً عن جولات التفاوض السياسية، بل جاء عقب رفض دمشق التنازل عن الجولان أو القبول بإقامة نقاط إسرائيلية دائمة على الحدود. ما زاد من تمسك الحكومة السورية بخطوط الاتصال الأمنية كبديل لمعالجة الهواجس الإسرائيلية. لكن تل أبيب رأت في اضطرابات السويداء فرصة لتوسيع نفوذها تحت ستار “حماية الدروز“، ودعمت بشكل مباشر جماعات مسلحة محلية مناوئة للسلطة السورية، مطالبة بتحويل الجنوب السوري إلى منطقة منزوعة السلاح.
في المقابل، أبدت كل من تركيا والسعودية مواقف داعمة لاستقرار سوريا ووحدتها. فأنقرة أعلنت دعمها الكامل لوحدة الأراضي السورية، وأبدت استعدادها لتقديم مساعدات في مجالات التدريب والاستشارة العسكرية، في خطوة يُنظر إليها كرسالة مباشرة إلى إسرائيل و”قسد” التي استغلت أحداث السويداء لإعلان رفضها تسليم السلاح.
أما الرياض، فقد اتخذت خطوة جريئة عبر إرسال وفد استثماري كبير إلى سوريا لتنظيم “المنتدى السعودي السوري“، وطرح مشاريع استثمارية بمليارات الدولارات، في وقت حساس أعقب تصعيداً سياسياً وعسكرياً، وبالتزامن مع توجه الكونغرس الأميركي لتمديد العقوبات على دمشق بموجب قانون قيصر. هذا التحرّك السعودي أوحى برغبة جادة في تحريك عجلة الاقتصاد السوري، وإعطاء إشارة للغرب أن الاستقرار على الأرض يجب أن يتقدّم على العقوبات السياسية.
موقف إدارة ترمب.. توازن هش بين الحلفاء
تبدو إدارة ترمب السابقة وكأنها تمشي على حبل مشدود في التعامل مع الملف السوري، إذ تسعى إلى إرضاء الحلفاء الخليجيين والأتراك من جهة، وتجنب الصدام مع إسرائيل من جهة أخرى. هذه الازدواجية برزت بوضوح من خلال تصريحات المبعوث الأميركي إلى سوريا، الذي نفى مسؤولية القوات الحكومية عن تفجير الأحداث في السويداء، لكنه في الوقت ذاته انتقد تراجع شعبية الرئيس السوري أحمد الشرع، واعتبر أن المرحلة الانتقالية تتطلب تمثيلاً أوسع للأقليات.
اللافت في تلك التصريحات أن المبعوث الأميركي أكد صراحة أن بلاده لم تُستشر في الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية، وأن واشنطن لا تستطيع فرض قرارات على تل أبيب، وهو ما يفتح الباب أمام نفوذ إسرائيلي شبه مطلق في الجنوب السوري. كما أن إدارة ترمب لم تعارض علناً فكرة توقيع تركيا لاتفاقية دفاع مشترك مع دمشق، ما يعكس حرصها على إبقاء التوازن دون الدخول في معركة خيارات حاسمة.
في ضوء ما سبق، يظهر أن إدارة ترمب ركّزت على الحفاظ على حالة استقرار هش في سوريا بانتظار اكتمال مشروعها الأكبر المتمثل في تقليص النفوذ الإيراني. لكنها لم تبذل جهداً حقيقياً لإيقاف السلوك الإسرائيلي المتصاعد، بل تجاهلت عن قصد الانتهاكات التي تهدد وحدة سوريا، وهو ما يضع واشنطن في موقع غير حيادي ويضعف فرص نجاح أي تسوية عادلة في البلاد.
يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع الولايات المتحدة مستقبلاً الاستمرار في هذا التوازن القلق بين الحلفاء؟ أم أن التحولات المتسارعة على الأرض ستجبر واشنطن على تبنّي موقف أكثر وضوحاً تجاه وحدة سوريا، بعيداً عن حسابات تل أبيب وطموحاتها التفتيتية؟