شهدت الساحة السورية مؤخراً تصعيداً إسرائيلياً متسارعاً، جاء بالتزامن مع جهود تفاوضية خجولة بين دمشق وتل أبيب برعاية دولية وإقليمية، وهو ما يطرح تساؤلات حول طبيعة هذا التصعيد: هل يمثل ورقة ضغط تفاوضي من قبل إسرائيل؟ أم أنه يعكس رفضاً مبدئياً للتفاهمات مع الحكومة السورية الجديدة؟
في منتصف تموز الجاري، انطلقت جولات تفاوضية بين الحكومة السورية وإسرائيل بعيداً عن الأضواء، في محاولة لكبح التصعيد الإسرائيلي المستمر على الأراضي السورية. الجولة الأولى جرت في العاصمة الأذربيجانية باكو، تلتها جولة ثانية برعاية أمريكية في العاصمة الفرنسية باريس في 24 من الشهر ذاته.
ورغم الطابع السري والمحدود لهذه اللقاءات، إلا أن نتائجها كانت مخيبة. فقد رفضت دمشق المطالب الإسرائيلية التي تضمنت إقراراً سورياً بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة، إضافة إلى التغاضي عن إقامة نقاط عسكرية إسرائيلية دائمة تتجاوز خط وقف إطلاق النار الموقّع عام 1974. في المقابل، طرحت الحكومة السورية فتح قنوات أمنية مباشرة لمناقشة المخاوف الإسرائيلية، وطالبت بانسحاب تل أبيب من النقاط التي دخلتها مؤخراً داخل الأراضي السورية، وهي مطالب لم تلقَ استجابة إسرائيلية.
تزامن فشل مفاوضات باكو مع محاولة القوات الحكومية السورية الانتشار مجدداً في محافظة السويداء، وهو ما واجهته إسرائيل بغارات جوية استهدفت مواقع عسكرية حكومية في المنطقة. هذا التوقيت الحرج يشي بأن التصعيد الإسرائيلي لم يكن عشوائياً، بل جاء كرسالة مباشرة تعكس عدم رضى تل أبيب عن الطرح السوري في المفاوضات، وربما كسعي لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك.
هذا النهج يطرح تساؤلاً جوهرياً: هل تتعامل إسرائيل مع طاولة التفاوض كغطاء مرحلي لفرض وقائع جديدة على الأرض؟ أم أن هناك توجهاً إسرائيلياً دائماً لعدم السماح بأي استقرار عسكري للحكومة السورية بالقرب من الجولان أو في مناطق الجنوب السوري عموماً؟
وساطة أميركية ومقترحات إقليمية لكبح التوتر
لم تبقِ الولايات المتحدة الموقف على حاله، بل دخلت على خط التهدئة عبر اتصالات مكثفة مع تل أبيب، بضغط من كل من تركيا والأردن، اللتين أبدتا خشية من اتساع رقعة المواجهة في الجنوب السوري.
قدمت أنقرة وعمّان مقترحاً مشتركاً يهدف إلى تقليص التوتر، ويتضمن:
حصر انتشار القوات في السويداء على وحدات أمنية فقط، دون استخدام الأسلحة الثقيلة.
دمج عناصر محلية ضمن هذه القوات لطمأنة السكان وتخفيف الحساسية الطائفية.
إشراف إقليمي على مراقبة وقف إطلاق النار، لتحديد الجهات التي قد تخرق التفاهمات.
هذا الطرح لاقى تجاوباً أولياً، خصوصاً بعد إعلان العشائر السورية في السويداء بياناً يؤكد وقف المواجهات في المحافظة، في خطوة بدت وكأنها محاولة أهلية لإسناد الجهود السياسية ومنع الانزلاق إلى صدامات أوسع.
ختاماً..
يمكن القول إن التصعيد الإسرائيلي في سوريا، في هذا التوقيت، لا يبدو مفصولاً عن مسار المفاوضات غير المُعلن بين دمشق وتل أبيب. لكنه أيضاً لا يعكس قبولاً إسرائيلياً بأي شكل من أشكال التفاهم السياسي، ما لم يحقق كامل الشروط الأمنية والاستراتيجية التي تطالب بها إسرائيل.
وبينما تحاول واشنطن، مدعومة من أنقرة وعمّان، لعب دور الوسيط الحذر، يبقى الجنوب السوري رهينة تجاذبات تتجاوز حدوده الجغرافية، ليرتبط بمسارات تطبيع إقليمي، وتوازنات نفوذ إيراني، وملفات أكبر من مجرد قصف أو ردع موضعي.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل يشكل هذا التصعيد جزءاً من معركة تفاوضية أكبر؟ أم أننا أمام سياسة إسرائيلية دائمة لرفض أي تفاهم مع نظام تعتبره تهديداً استراتيجياً؟