في ظل التحديات الهائلة التي تواجه سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب، يبرز إصلاح القطاع المصرفي كأحد الركائز الأساسية لجهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وبينما تنهمك البلاد في مواجهة آثار الدمار، وتكافح للخروج من أزمتها الاقتصادية المركبة، يفتح سؤال جوهري الباب لنقاش واسع: هل يمكن لسوريا أن تتبنى نموذجاً مالياً ناجحاً؟
القطاع المصرفي… مفتاح الثقة والاستقرار
يشير الخبراء إلى أن بناء نظام مالي قوي ليس مجرد خيار اقتصادي، بل ضرورة استراتيجية لإرساء قواعد الثقة بين الدولة والمواطن، واستقطاب الاستثمارات المحلية والدولية. المستشار الاقتصادي أسامة قاضي يرى أن إصلاح القطاع المصرفي لا يمكن فصله عن السياق السياسي والأمني الراهن، محذراً من التسرع في منح الاستقلالية للبنك المركزي في هذه المرحلة الحساسة.
وفي حديثه لموقع “تلفزيون سوريا“، أكد قاضي أن تحقيق التوازن بين ربحية المصارف والخدمة العامة هو التحدي الأبرز، ويستلزم رقابة فعّالة من البنك المركزي لضمان السيولة وتقليل المخاطر المرتبطة بتقلبات السوق.
الدروس المستفادة من تجارب دولية ناجحة
من خلال قراءة مقارنة مع تجارب دول مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وألمانيا، تتضح ملامح مسارات واقعية لبناء نظام مصرفي متوازن في سوريا:
كوريا الجنوبية نجحت في تجاوز أزمات اقتصادية بفضل نظام مصرفي فعال، شفاف، ومتناسق مع السياسات الحكومية. رغم استقلاليته النسبية، يحافظ بنك كوريا المركزي على تعاون وثيق مع الحكومة، ما ساعد البلاد على الصمود في وجه الصدمات المالية العالمية.
ماليزيا، من جهتها، تقدم نموذجاً فريداً لدمج النظام المالي الإسلامي مع التقليدي، في إطار تنظيمي موحّد. هذا التوازن سمح بجذب شرائح اجتماعية واسعة كانت خارج الدورة الاقتصادية، وفتح آفاقًا جديدة للتمويل والاستثمار.
أما ألمانيا، فقد اختارت بعد الحرب العالمية الثانية تفكيك النظام المصرفي السابق وإنشاء مؤسسات مالية حديثة ومستقلة، لعبت دوراً محورياً في استعادة الثقة، وضبط التضخم، وتحفيز النمو من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر بنوك الادخار والبنوك التعاونية.
خصوصية الواقع السوري… وتحديات الاستقلالية
لا شك أن الوضع في سوريا يختلف عن تجارب الدول السابقة، لكن ذلك لا يمنع من الاستفادة منها بشكل مرن. فكما يشير قاضي، فإن منح البنك المركزي السوري استقلالية تامة في الوقت الراهن قد يكون أمراً سابقاً لأوانه. ويضيف أن العديد من الدول، مثل الصين وبلجيكا ونيوزيلندا، تحتفظ بدرجات مختلفة من الرقابة الحكومية على عمل بنوكها المركزية، تماشياً مع طبيعة أنظمتها السياسية.
في الحالة السورية، يُعد التحدي الأكبر في إعادة بناء الثقة بالمؤسسات، وتحديث البنية التقنية والإدارية لمصرف سوريا المركزي، الذي لا يزال حتى اليوم خاضعًا بشكل مباشر للسلطة التنفيذية، ما يقوّض قدرته على ضبط السوق النقدية ومواجهة تقلبات الليرة السورية.
نحو نموذج سوري خاص… بين الحذر والطموح
المطلوب اليوم ليس استنساخ تجارب الآخرين، بل تكييفها مع الواقع السوري. فتفعيل دور البنوك التعاونية وبنوك الادخار يمكن أن يُعيد الحياة للمشاريع الصغيرة، ويدعم الاقتصاد المحلي، في وقت لا تزال السيولة فيه شحيحة، والمصارف تواجه عزلة دولية خانقة بسبب العقوبات.
إن النظام المصرفي الحديث والمتوازن يمكن أن يلعب دورًا جوهريًا في تحفيز النمو، وخلق فرص العمل، وجذب الاستثمارات، لكنه لن يُبنى في فراغ. فلا استقرار مالي دون استقرار سياسي، ولا إصلاح اقتصادي دون إصلاح إداري وقانوني شامل.
الخلاصة
بين دروس الماضي وتطلعات المستقبل، تقف سوريا أمام مفترق طرق حاسم: إما البقاء في دائرة الانهيار المالي، أو الانطلاق في مسار بناء نموذج اقتصادي متجدد، يعتمد على الشفافية، والحوكمة، والتخطيط الذكي.
ربما لا تكون الاستقلالية الكاملة للبنك المركزي خطوة مناسبة اليوم، لكن إعادة هيكلة النظام المصرفي السوري وتحديث أدواته هو حتمية لا تحتمل التأجيل، إذا ما أرادت البلاد بناء مستقبل اقتصادي مستدام يليق بشعبها وتاريخها.