مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر الماضي، دخلت البلاد مرحلة جديدة من الصراع السياسي والأمني، حيث باتت ملفات عدة على طاولة القوى المحلية والإقليمية والدولية. من بين أبرز هذه الملفات وأكثرها تعقيداً هو ملف معتقلي تنظيم “داعش” الذين تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في سجونها، وعلى رأسها سجن غويران ومخيم الهول بمحافظة الحسكة. هذا الملف لم يعد مجرد قضية أمنية تتعلق بمخاطر فرار عناصر التنظيم أو عودة نشاطهم في المنطقة، بل تحوّل إلى ورقة مساومة استراتيجية تُستخدم لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية واقتصادية.
تسعى “قسد” إلى استثمار هذا الملف كورقة ضغط في مواجهة التهديدات التركية المستمرة بشن عمليات عسكرية ضدها، محذرة من احتمالية انهيار الأوضاع الأمنية وفرار آلاف المعتقلين، مما قد يفتح الباب أمام عودة التنظيم بقوة إلى الساحة السورية. في المقابل، تسعى قوى أخرى، مثل إيران والفصائل العراقية الموالية لها، إلى الدخول على خط هذا الملف من خلال علاقاتها مع “قسد”، بهدف استخدام هذه الورقة لمواجهة النفوذ التركي وتوسيع دائرة نفوذها في سوريا.
في الوقت نفسه، تقف الإدارة السورية الجديدة وتركيا على الجانب الآخر من المشهد، متخوفين من أن يؤدي سوء إدارة هذا الملف إلى إشعال موجة جديدة من العنف وعدم الاستقرار في سوريا والمنطقة ككل. وبين التلويح بخطر “داعش” والضغوط الدولية لإيجاد حلول مستدامة، يبرز هذا الملف كأحد التحديات الكبرى التي ستحدد مستقبل سوريا والعلاقات الإقليمية فيها.
فما هي الأبعاد الحقيقية لهذه الورقة؟ وكيف يتم استثمارها في صراعات النفوذ بين الأطراف المختلفة؟ هذا ما سنناقشه في السطور التالية.
“قسد” والتلويح بتهديد “داعش”
وجدت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) نفسها في مواجهة مباشرة مع الجيش الوطني السوري وغرفة عمليات “ردع العدوان“، بالإضافة إلى الضغط العسكري والسياسي التركي المتزايد. ومع كل تهديد تركي بشن عملية عسكرية واسعة، تلجأ “قسد” إلى استثمار ورقة المعتقلين لديها، محذرة من أن أي اضطرابات أمنية قد تؤدي إلى فرار هؤلاء السجناء، مما قد يُحيي نشاط التنظيم في سوريا مجدداً.
تحتجز “قسد” الآلاف من عناصر “داعش”، بمن فيهم مقاتلون أجانب يحملون جنسيات أوروبية، وهو ما يُثير قلقاً دولياً. الدول الأوروبية، التي رفضت سابقاً استعادة رعاياها، تجد نفسها أمام مأزق أمني وأخلاقي إذا ما تفجرت الأوضاع.
الدور الإيراني والعراقي في استثمار المعتقلين
تسعى إيران إلى استغلال ملف معتقلي “داعش” لتعزيز نفوذها في سوريا. وفقاً لمصادر أمنية، تعمل إيران عبر فصائل عراقية مقربة منها لإقناع “قسد” بتسليم قيادات عراقية في التنظيم، بحجة منعهم من الهروب والعودة إلى النشاط في العراق.
لكن الهدف الحقيقي لطهران، كما تشير التقارير، هو الاحتفاظ بورقة “داعش” كأداة ضغط يمكن توجيهها ضد المصالح التركية والأمريكية. من جانبها، تبدو “قسد” حذرة في تسليم هذه القيادات، خوفاً من فقدان السيطرة على هذه الورقة التي تمثل عنصرًا رئيسيًا في المفاوضات.
مخاوف الإدارة السورية الجديدة وتركيا
مع تولي الإدارة السورية الجديدة زمام الأمور، ظهرت مخاوف واضحة من عودة نشاط “داعش”. تركيا، التي تعتبر محاربة التنظيم أولوية أمنية، طالبت بتسليم السجون التي تحتوي على معتقلي “داعش” إلى الإدارة السورية الجديدة، مع إشراف تركي لضمان السيطرة على الأوضاع.
التطور الأبرز تمثل في تعيين أنس خطاب رئيساً للاستخبارات السورية، وهو شخصية تمتلك خبرة واسعة في ملف “داعش”، مما يعكس أهمية هذا الملف بالنسبة للإدارة الانتقالية. في الوقت ذاته، يعكف أحمد الشرع، قائد الإدارة الجديدة، على تعزيز التنسيق مع “قسد” لضمان السيطرة المشتركة على المعتقلين.
التحركات التركية الأمريكية والتوازنات الدولية
تعمل تركيا على طمأنة إدارة ترمب بشأن قدرتها على احتواء خطر “داعش”، في محاولة لتسريع انسحاب القوات الأمريكية من سوريا. ومن المتوقع أن تقوم أنقرة بتأسيس قواعد عسكرية جديدة في مناطق قريبة من البادية السورية، لتأمين المنطقة ومنع استخدام ورقة “داعش” ضدها.
في المقابل، تتحرك القوى الغربية مثل فرنسا لتأكيد حضورها في الملف السوري، كما تجلى في الغارات الجوية الأخيرة ضد خلايا التنظيم، في أول تحرك علني منذ عامين.
خاتمة
ملف معتقلي “داعش” في سوريا بات محوراً لصراع المصالح الإقليمية والدولية. بين تهديدات “قسد” بعودة التنظيم، ومساعي إيران والعراق لاستثماره، وضغوط تركيا لضمان أمن حدودها، يبقى السؤال: من سيحكم هذه الورقة؟ وكيف ستؤثر على مستقبل سوريا والمنطقة؟
في ظل هذا التعقيد، تبدو سوريا أمام مرحلة جديدة من الاستقطاب الدولي، حيث ستظل قضية “داعش” أداة للمساومة، وصراع المصالح مستمراً دون حلول قريبة.