منذ انطلاق الثورة السورية المباركة في عام 2011، كثر حديث نظام الأسد عن “فسيفساء سورية“، و”مجتمع فسيفسائي“، و”اللوحة الفسيفسائية السورية“. ولكن، هل تعكس هذه المصطلحات حقاً طبيعة المجتمع السوري أم أنها محاولة لتشويه الهوية الوطنية الجامعة للشعب السوري؟ يبدو أن هذا الخطاب يسعى إلى ترسيخ تعريفات فاقعة لا تتوافق مع عمق التاريخ والجغرافيا والهوية المشتركة لسوريا.
أحد الأساليب الأكثر خطورة التي استخدمها النظام السوري هو التركيز على ما أسماه “الفسيفساء” السوري، وإبراز الهوية الطائفية والفئوية كجزء من تكوين الدولة. فقد عمد نظام الأسد إلى إبراز الأقليات كعناصر ضعيفة تحتاج إلى حمايته، محاولاً تقديم نفسه كـ “حامي الأقليات“، بينما الواقع يشير إلى استغلاله هذه الأقليات لتعزيز سلطته.
من خلال تكرار مصطلحات مثل “الموزاييك السوري”، شجع النظام على تقسيم المجتمع بين طوائف وعرقيات، وأخذ يقدم نفسه على أنه الحل الوحيد لإبقاء البلاد مستقرة في مواجهة “صراع الهويات“. استخدم هذا الخطاب لتخويف الأقليات من الثورة الشعبية، وكأنها تهديد وجودي لهم، وذلك من خلال شيطنة المعارضين واتهامهم بالسعي لتدمير بنية الدولة. بذلك، جعل من “الفسيفساء” درعاً يتستر خلفه من أجل حماية نفسه، لا حماية الشعب.
إرث فرنسا الاستعماري في سياسة الأسد
هذا التلاعب ليس جديداً في سوريا، بل يعيد إلى الأذهان السياسة الاستعمارية الفرنسية التي زرعت بذور الانقسام داخل المجتمع السوري. خلال الانتداب، سعت فرنسا إلى تشجيع التقسيمات الطائفية والعرقية، محاولةً إرساء قواعد دائمة لسلطتها من خلال خلق هويات متنازعة. اعتمدت فرنسا على تقسيم الشعب السوري إلى مناطق إدارية بناءً على الطوائف، ما أسهم في تعزيز الفروقات الثقافية والدينية داخل الذهنية السورية.
استلهم نظام الأسد كثيراً من تلك التجربة، محاولاً تكرارها بشكل جديد. فقد دفع عبر وسائل الإعلام والخطابات الرسمية إلى نشر مفهوم “الخصوصية” لكل طائفة أو عرق، مشيراً إلى سوريا ككيانات متباينة. أضعف ذلك، بشكل مباشر، الهوية الوطنية السورية، وزاد من النفور بين أبناء الوطن الواحد، ما ساهم في خلق نوع من الانعزال والانكفاء على الهويات الفرعية.
تسييس الأقليات لتحقيق السيطرة
تمكن نظام الأسد من ترسيخ سياسة “فرق تسد” عبر استخدامه للأقليات كأدوات سياسية. فقد اعتمد على الطائفة العلوية وجعلها تمثل جزءاً أساسياً من بنيته العسكرية والأمنية، بينما عمل على إبقاء الطوائف الأخرى في حالة من الترقب والقلق. هذه السياسات الطائفية لم تكن لحماية العلويين أو غيرهم من الأقليات، بقدر ما كانت محاولة لاحتواء القوى الاجتماعية السورية وتطويعها لخدمة النظام.
في مقابل هذا التوجه، هناك دعوات من النخب المثقفة والمفكرين السوريين للتأكيد على الهوية الوطنية الجامعة التي تتجاوز الطوائف والأعراق. رفض العديد من المفكرين مثل “فالنتين دي ساينت” و”هامسنلي لونكريك” فكرة أن المجتمع السوري هو “فسيفساء” من الأقليات، مشيرين إلى أن سوريا تمثل كيانًا تاريخيًا متجانسًا يربط بين أبنائه تاريخ وثقافة وجغرافيا مشتركة.
التأكيد على الهوية الوطنية الجامعة يعني رفض أي محاولة لتقسيم الشعب على أسس طائفية أو عرقية. يشير هؤلاء المفكرون إلى أن الشعب السوري، رغم تنوعه، يجتمع تحت مظلة اللغة العربية والتقاليد المشتركة، ويشارك في تراث ثقافي عميق يعود لآلاف السنين. إن الهوية الوطنية السورية ليست مصطنعة، بل متجذرة في روح الشعب السوري، غير أن النظام سعى بكل وسيلة لتدمير هذا الترابط الطبيعي.
النظام السوري لم يكتف بتقسيم المجتمع السوري، بل قمع أي محاولة لتعزيز الهوية السورية المشتركة. فقد استهدف المثقفين والنشطاء الذين طالبوا بإصلاحات سياسية وإصلاحات اجتماعية من شأنها أن تُعزز الوحدة الوطنية. اعتبر النظام هؤلاء الأشخاص تهديداً لبقائه، لأنهم يسعون لبناء مجتمع يرتكز على المواطنة بدل الطائفية، ويعزز الهوية السورية بدل الهويات الفرعية.
لقد شكلت هذه الاستراتيجية تهديداً وجودياً للسوريين الذين يرون أنفسهم جزءاً من نسيج اجتماعي وثقافي متماسك. من خلال استهداف التعليم والثقافة، عمل النظام على خلق أجيال جديدة لا ترى في سوريا وطناً مشتركاً، بل كياناً مفككاً تحكمه المصالح الطائفية والعرقية.
الخاتمة: استعادة الهوية الجامعة
إن واقع “الفسيفساء” في سوريا ليس إلا ستاراً يخفي محاولة النظام لتقسيم المجتمع وضمان استمراريته. يجب على السوريين أن يتجاوزوا هذه المصطلحات التي تهدف إلى إضعافهم وتفكيك وحدتهم. الهوية الوطنية السورية التي تتجاوز الانتماءات العرقية والطائفية كانت وما زالت الوعاء الذي يحتضن جميع السوريين.
إن استعادة سوريا لروحها الوطنية الجامعة هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل آمن ومستقر، خال من الاستبداد والطغيان. سوريا لا تحتاج إلى رايات متعددة أو حدود جديدة، بل إلى مشروع وطني يعزز قيم التعايش والتكامل بين جميع أبنائها.
كل الشكر والتقدير