الباصات الخضراء: التاريخ يعيد نفسه
في مشهد يعكس المثل القائل “كما تدين تدان“، تتكرر اليوم المأساة التي عاشها السوريون على مدى سنوات الصراع الدامي في سوريا، ولكن هذه المرة في روسيا. كما هجرت القوات الروسية بالتعاون مع نظام الأسد آلاف السوريين من بيوتهم وقراهم في سوريا، وأجبرتهم على الرحيل بالباصات الخضراء إلى مصير مجهول في المخيمات، نجد اليوم الروس يختبرون طعم هذه المأساة نفسها، بعد التوغل الكاسح للقوات الأوكرانية في الأراضي الروسية.
خلال الأسابيع الماضية، نزح أكثر من 150 ألف روسي من منطقة كورسك، حيث توغلت القوات الأوكرانية وسيطرت على 74 بلدة وقرية روسية بمساحة تقارب 600 كم مربع. هؤلاء النازحين لم يجدوا وسيلة للفرار من الحرب سوى الركوب في حافلات خضراء، تذكرنا بتلك التي استخدمت لتهجير السوريين. واليوم، يعيش هؤلاء الروس في مخيمات، تماماً كما عاش السوريون لسنوات في ظروف قاسية وغير إنسانية.
قد يبدو المشهد الحالي كأنه مجرد تبادل للأدوار في مسرحية حرب طويلة. فكما أجبرت روسيا نظام الأسد على استخدام الباصات الخضراء لترحيل معارضيه، تتعرض روسيا اليوم لنفس المصير. الهجوم الأوكراني على كورسك يهدف إلى زعزعة استقرار الحكومة الروسية وإظهار ضعفها في حماية مواطنيها، وهو ما يضع الرئيس بوتين في موقف محرج أمام العالم. فلطالما صوّر بوتين نفسه كحامي الوطن والمدافع عن الشعب الروسي، لكن الهجمات الأخيرة كشفت عن هشاشة هذا الادعاء.
ولعل ما يزيد الأمر سوءاً هو أن هذه الأزمة تذكرنا بالسياسة الروسية التي لا تعير اهتماماً لمواطنيها، منذ زمن ستالين. فبينما يعيش الروس في المخيمات ويموت الآلاف يومياً جراء الحرب، يستمر بوتين في تنفيذ خططه العسكرية دون النظر إلى التكاليف البشرية. هذه السياسات، التي تعتمد على تجاهل الخسائر البشرية لصالح تحقيق أهداف سياسية، تجعل من روسيا أشبه بنظام الأسد الذي لم يتردد في استخدام شعبه كوقود لاستمرار حكمه.
اليوم، يقف العالم مشدوهاً أمام تكرار نفس المشاهد، لكن بأدوار مختلفة. في حين كان الغرب في بداية الحرب الأوكرانية الروسية يخشى من تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، أصبح الآن يراقب بصمت استخدام أسلحته على الأراضي الروسية. الخطوط الحمراء بين روسيا والغرب قد مُحيت، والقرار بات الآن في يد بوتين.
إن الجهل بالتاريخ يمكن أن يؤدي إلى تكراره، وهذا ما يحدث الآن. فالروس، الذين لطالما صُوروا كقوة عسكرية عظمى، يجدون أنفسهم اليوم في موقف مشابه لما عاشوه في الحروب السابقة. في الماضي، لم تستطع روسيا تحقيق انتصاراتها إلا بدعم من الدول الغربية، واليوم، بدون هذا الدعم، قد تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه.
الحرب في كورسك ليست مجرد صراع عسكري، بل هي اختبار لقوة روسيا الحقيقية وقدرتها على الصمود دون دعم خارجي. ومع توغل القوات الأوكرانية، واستمرار النزوح الجماعي للمدنيين الروس، تتكرر مشاهد المأساة التي عاشها السوريون، ولكن هذه المرة على أرض روسية.
في الختام، يمكن القول إن ما يحدث في كورسك هو تذكير مؤلم بأن ما تزرعه في الحروب يعود ليطاردك، وأن المعاناة التي تسببها لغيرك ستجد طريقها إليك، عاجلاً أم آجلاً. وكما هجّرت روسيا السوريين بالباصات الخضراء، ها هم الروس اليوم يواجهون نفس المصير، في دائرة لا تنتهي من العنف والمعاناة.
للعاطلين جولة وللحق جولات