منذ ثلاثة أشهر تشهد إدلب مظاهرات مناهضة لهيئة تحرير الشام بشكل يومي في عدة مدن وبلدات. الملفت في هذه المظاهرات أن قسماً من روادها كان محسوباً على هيئة تحرير الشام أو هو تيار فيها وانقلب عليها. يمكن تصنيف المتظاهرين إلى ثلاث فئات: العسكريين من الصف الأول والثاني والثالث الذين كانوا مسجونين بتهمة التعامل مع التحالف مع عدد كبير من مؤيديهم الشرعيين، القسم الثاني حزب التحرير وهو الأضعف على الساحة، والقسم الثالث الثوار القدامى من 2011 وهم أيضاً منقسمون؛ فالسياسيون منهم يريدون الإصلاح ويطلبون تسليمهم إدلب كإدارة مدنية دون تنحي الجولاني، أما القسم الآخر فيريد اقتلاع الهيئة بكل مكوناتها السياسية والعسكرية وتسليم إدارة المنطقة إلى الثوار.
طالب المتظاهرون بتحسين الوضع المعيشي وإلغاء الضرائب والرسوم، ووصلت مطالبهم حتى إسقاط الجولاني وعزل هيئة تحرير الشام. الملفت أن نقمة المتظاهرين تنصب على شخص الجولاني وليس على فصيل تحرير الشام.
السؤال: هل تحرير الشام داخلياً منقسمة؟
نعم، إلى حد ما، وليس انقساماً حاداً كما يروج على وسائل الإعلام. فهي ليست أكثر من تحفظات وخلافات تمثل تيارات داخل هيئة تحرير الشام على سياسة القائد العام. تيار إدلب في هيئة تحرير الشام منقلب إلى حد كبير ضد الجولاني، على عكس تيار الحوارنة الذي يتمسك بالجولاني. التيار المسمى “معت” منقلب أيضاً على سياسة الجولاني. وصل الجولاني لمرحلة ليس معه سوى الجناح الأمني وبعض القادة العسكريين، لدرجة أنه رضخ لكثير من المطالب ودعا إلى اجتماع كبير، وكان بعض رفاقنا من بين المدعوين. حضروا الاجتماع ولاحظوا أن ملامح الجولاني ولغة جسده تشير إلى ارتباكات كثيرة، على عكس المرات السابقة التي اجتمعوا معه فيها حيث كان أكثر ثقة وقوة.
من وراء المظاهرات؟
المظاهرات عفوية ومتوقعة لأن إدلب بشكل عام ترفض وجود هيئة تحرير الشام، والنقمة الشعبية ضد الهيئة تتزايد وكبيرة. تدعم الفصائل العسكرية وخاصة فصائل الجيش الوطني المظاهرات ويبدو أن ذلك يتم بتوجيه تركي، وعلى الرغم من أن الأتراك لم يعلنوا موقفاً من المظاهرات، إلا أن اللقاءات غير الرسمية مع مسؤولين أتراك أوصلت رسائل تفيد بأن تركيا تؤيد الضغط على الهيئة.
هل كل من يشارك في المظاهرات عامة الناس؟
لا، منهم من هو عسكري يكره تنظيم تحرير الشام ويؤيد المظاهرات بهدف حصوله على السلطة، ومنهم من ينتمي لحزب التحرير، ومنهم من كان محسوباً على هيئة تحرير الشام والآن انقلب عليها بشكل كبير.
هل سوف يلجأ الجولاني لاستخدام العنف؟
نعم، ومتوقع جداً. وقد هدد الجولاني بذلك بشكل غير مباشر.
تشير الاحتجاجات إلى ارتفاع سقف مطالب المتظاهرين على اختلاف شرائحهم، حيث ينادي هؤلاء بتنحي الجولاني عن قيادة الهيئة، وتفكيك جهاز الأمن العام، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. بالتوازي، تقوم هيئة تحرير الشام بحراك لاحتواء الاحتجاجات والأزمة الداخلية المتصاعدة، حيث أجرى الجولاني اجتماعات مع نشطاء وإعلاميين ووجهاء محليين وقادة عسكريين قدم فيها وعوداً بالاستجابة لمطالبهم، إلى جانب استخدامه أسلوب التهديد بإشارته إلى عدم السماح بتجاوز الخطوط الحمراء واستعداده لتغيير طريقة تعامل الهيئة مع الأحداث.
من المحتمل أن الجولاني يسعى لاحتواء الأزمة مع الجناح العسكري مؤقتاً، ليستطيع بذلك توسيع خياراته في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية ذات المطالب المرتفعة؛ والتي تنادي بتنحيه وتفكيك جهاز الأمن العام أو إعادة تشكيله ضمن حكومة الإنقاذ وتغيير مرجعية الحكم الحالية في منطقة إدلب باختيار مجلس شورى جديد يمثل السكان بشكل واضح. على الأرجح أن تراجع زخم الاحتجاجات يرتبط بما يمكن أن تقوم به الهيئة من إجراءات عملية وإصلاحات واقعية، والتي ما تزال تقتصر -بحسب الظاهر- على احتواء أزمة الجناح العسكري مؤقتاً، من خلال إخراج أغلب قيادات المجموعات العسكرية الذين تم اعتقالهم، وأبرزهم أبو مارية القحطاني، والإيعاز إلى وزارة العدل في حكومة الإنقاذ بإصدار عفو عام، وتقديم منحة مالية لكل عوائل الشهداء والموظفين الحكوميين.
في هذا الصدد، تبدو أزمة الاحتجاجات هشة وغير مؤيدة من شرائح عديدة بشكل واضح، وإن استمرارها وتصاعدها قد يدفع الجولاني وبعض قيادات الهيئة لاختبار استخدام العنف على نطاق تدريجي ومحدود بالرغم من تجنب هذا الخيار حتى الآن، كما يبدو أن خيار تنحيه عن قيادة الهيئة أو حل جهاز الأمن العام أو إجراء انتخابات لتعيين قيادة جديدة للمنطقة مستبعد حالياً ما لم تتسع الاحتجاجات وتأخذ طابعاً عنيفاً، مما قد يضطره لاستحضار سيناريو القيادة من الخلف الذي قام به أثناء تأسيس الهيئة بتعيين هاشم الشيخ (أبو جابر) قائداً، وإلحاق جهاز الأمن العام بوزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ بعد ضمان السيطرة عليه إضافة إلى تأسيس قوة أمنية خاصة به أشبه بالحرس الثوري.
على العموم، إن الديناميات المعقدة تظهر أن الاحتجاجات الحالية في إدلب لها أبعاد عسكرية وسياسية واجتماعية، كما أنها ستؤثر بشكل كبير على مستقبل المنطقة، خاصةً على صعيد الأمن والاستقرار في حال وُوجهت بالعنف، كما أن احتواءها الكامل قد يؤدي إلى تغيير شكلي في قيادة الهيئة، وإجراء تغيير فعلي في هيكليتها وموازين القوى داخلها.
وفي خطوة منها لامتصاص المظاهرات، اتخذت تحرير الشام خلال الأسبوع الماضي عدداً من الإجراءات والقرارات، مثل تشكيل لجان لعقد اجتماعات مع الفعاليات المدنية والشعبية للاستماع لمطالبهم، ولتسهيل آلية التواصل بين الأهالي والجهات المسؤولة، وإصدار عفو عام عن السجناء، وإعفاء وتخفيض أسعار ترخيص البناء.
يرى أغلب النشطاء الذين تواصلنا معهم في إدلب أن المظاهرات سوف تنتهي دون الوصول إلى نتائج مهمة بسبب تعدد الأجندات واختلاف الدوافع وغياب قيادة للشارع.
الهيئة سلاح مأجور كشف عن وجهه الحقيقي
شكراً لك على تواجدك ومرورك الكريم!