مقدمة:
نشر مركز رصد للدراسات الاستراتيجية في عدده 1046 تاريخ 9 آذار 2024، مقالاً للكاتب محمد سامي الكيال بعنوان “لذَّة الأمة: ما المُتع المسموح بها في العالم العربي؟” لكونها ظاهرةً جديدة بدأت تنتشر في العالم العربي مؤخراً. وقد حرصنا على إعادة نشرها في موقع القبة الوطنية السورية ليتسنى للجميع الاستفادة من الأفكار التي وردت في هذا المحتوى الإعلامي.
*** المقال ***
يبدو «اقتصاد الألم» الحالي في العالم العربي غريباً إلى حد كبير، والمقصود بالتعبير الآليات الاجتماعية والثقافية للتعاطي مع الألم، وإعطائه المعنى، واستخدامه لغايات متعددة، إذ تلعب أشكال مختلفة من الإيلام دوراً تربوياً وقانونياً ودينياً شديد الأهمية، سواء في حالات منع المُتع ورقابتها؛ أو إنزال العقوبات بالأفراد؛ أو حتى «الألم الإيجابي»، أي الآلام التي يُعرّض الناس أنفسهم إليها، لغايات متسامية، مثل القداسة والطهارة والمحبّة، كما في حالة آلام الحمل والولادة عند النساء، أو الطقوس الدينية، التي تتطلّب نوعاً من الكبت القاسي، أو إلحاق الأذى المحدود بالذات.
فضلاً عن هذا يلعب «اقتصاد الألم» دوراً كبيراً في العمل الإنساني، فلا يمكن وجود أي شكل للإنتاج دون تطويع القوى الجسدية والعقلية، وإرهاقها، وتحقيق نوع من الضبط والتنظيم لها. وقد دارت دوماً صراعات طبقية كبرى حول حدود ومدى ونوعية الألم في العمل، والجهات التي يحق لها تحديده وفرضه، وتحصيل عوائده.
وما دامت المجتمعات تتجادل وتتصارع حول «اقتصاد الألم» الخاص بها، مُشكّلةً بذلك جانباً أساسياً من هويتها، فإنها، بالضرورة، تفتح أيضاً مجالات المتعة المسوح بها، فتحدد ما هو شرعي وقانوني وأخلاقي من لذّات، وسط كل الآلام «الضرورية»، أو ذات المعنى، أو المُهدَّد بها؛ كما تسعى لتخفيف الآلام غير الضرورية، عبر توفير الدعم الطبي والنفسي والاجتماعي، للأفراد الأكثر عرضة لها. وكل هذا بات رصده صعباً في العالم العربي، ليس فقط بسبب الميل نحو التشدد والتزمّت، أو انهيار كثير من مؤسسات الدعم والرعاية، بل أيضاً بسبب انعدام أي أفق، أقلّ ألماً، لمئات الملايين من البشر، الذين تفتّح وعيهم على كثير القمع والأزمات والعنف.
يعاني معظم مواطني الدول العربية من حالة كبت، يمكن وصفه بالمروّع، إذ تراجعت بشدة معظم إمكانياتهم في إطلاق طاقاتهم، على مختلف المستويات الحياتية، من تحقيق الذات عبر العمل والعائلة، وصولاً إلى التعبير عن النفس والرأي. وفوق هذا وذاك، تحرص أجهزة الدول المختلفة على إلزامهم بأداءات ثقافية وجندرية شديدة الصرامة؛ والحفاظ، بالعنف المحض أحياناً، على أخلاقهم وعقائدهم السليمة. ما مصلحة أي سلطة في تعريض رعاياها لكل هذا الضغط، ودون تقديم أي أمل، أو السماح بتوقّع لذة مقابل الالتزام بالقواعد؟
ربما كانت حالة الكبت العربي هذا مُهدِّدة بعواقب سياسية واجتماعية وثقافية وخيمة للغاية، ما يطرح أسئلة حول ما يمكن تسميته «الاستثمار في الكبت»: هل حالة الألم والقمع العامة هذه هي ما يحافظ على هويتنا وثقافتنا الحالية؟ وهل توجد جهات قادرة على توجيه كل تلك الطاقات والرغبات المكبوتة؟
الرغبة في الأمة
يثير تعنّت السلطات العربية، في رفض تعديل قوانين العنف الأسري بالتحديد، كثيراً من علامات الاستفهام. لسببٍ ما، يجد المشرّعون والسياسيون العرب أنه من الجيد ترك فئات اجتماعية واسعة، من النساء والقاصرين، وهم فعلياً الأغلبية الاجتماعية، دون حماية قانونية كافية من العنف الذكوري. ومن متابعة النقاشات والتصريحات العامة في هذا الصدد، يتبيّن أن ذكر «الأخلاق» و»الثقافة» و»القيم» طاغٍ. ما يجعل من الممكن اعتبار ذاك العنف جانباً مؤسِّساً من «اقتصاد الألم» العربي. فإذا قلّلنا بشكل جذري من قدرة الذكر المسيطر على إنزال الأذى بـ»أهل بيته»، من إساءة المعاملة وحتى القتل، حسبما يراه أقرب للعُرف والشرف، فإن بيوتاً كثيرة ستُهدم من أساسها، ما سيؤدي إلى انهيار منظومة الأخلاق المجتمعية برمتها.
قد يكون هذا متوقّعاً في دول محافظة، تعتبر أن مصادر تشريعها مقدّسة ومتعالية على أي تغيير اجتماعي وتاريخي، إلا أنه يصبح لافتاً للغاية في حال ربطناه بحالة الكبت العربية العامة: في مجتمعات تعرّضت لأكثر من موجة «صحوة» وإحياء» ديني؛ وجُرّمت فيها كثير من المُتع البسيطة؛ وتُفرض فيها رقابة متعددة المستويات على سلوكيات البشر وتعبيرهم، تُعتبر أنماط معينة من العنف، مشرعنة، أو مقبولة أو مُخفَّفة العقوبة، لأنها تحافظ على قيم تساهم باستمرار «الأمة» ذاتها. هذا سيعني، بشكل شبه مباشر، أن ممارسة ذلك العنف المشرعن، ستصبح أمراً مُفرّغاً للكبت، وممتعاً إلى حد كبير، خاصة أنها من اللذات القليلة التي تُترك لتقدير ممارسها.
لذّات العنف الشرعي أيديولوجياً هذه، تتجاوز الحيز الخاص، فإذا كانت «الأمة» وقيمها دوماً تحت التهديد، من عدو خارجي، لا يكتفي بالتآمر السياسي والعسكري عليها، بل أيضاً يسعى لنشر الأفكار والممارسات المنحرفة فيها، فسيغدو كل العنف المطلوب لمقاومة المؤامرة، والمنجريّن لها أو المضلّلين بها، أمراً نبيلاً ومتسامياً، وهو ما نشهده على عدة مستويات، من العنف اللفظي والكتابي ضد المختلفين في الرأي، مثل «العملاء» أو «الصهاينة العرب»؛ مروراً بالاعتداء الشامل في الحيز العام على النساء «المنحلات»، وأصحاب الأداء الجندري غير النمطي من الذكور؛ وصولاً، في أعلى الدرجات، إلى العنف الميليشياوي.
وابتداءً من رب العائلة الذي يضرب بناته، وحتى المُسلّح الذي يقتحم مدناً، ويعذّب ويقتل الآخرين على الهوية، نرى أن «الرغبة في الأمة» إن صح التعبير، أي الحفاظ على استمرارها ضمن عالم فاسد وشرير، هي الرغبة الوحيدة التي يسمح اقتصاد الألم العربي الحالي فعلياً بإرضائها، ودون حدود في أحيان كثيرة.
لا تتيح العلاقات التعاقدية عادةً، ذاك المستوى من إرضاء الرغبة، إذ أنها مقيّدة نظرياً بشرط الرضائية، وحق أطرافها المبدئي بتغييرها أو تعديلها أو تحسين شروطها، والسعي أو النضال أو الجدل لأجل ذلك؛ فيما يمكن لأمة أحادية، ملغية من حيث المبدأ لكل تعددية فعلية فيها، أن تبيح مستويات، «شاذّة» فعلاً، من سحق الآخرين في سبيلها، وهذا قد يكون ممتعاً لكثيرين، خاصة في ظروف اضمحلال الدول ومؤسسات التحضّر، التي كانت سابقاً تنتج أيديولوجيات وأعرافاً أكثر انضباطاً للحفاظ على «الأمة». اليوم يمكن لأي فتى متحفّز أو مسلّح أن «يقاوم» على طريقته، وإذا كانت الأمة حاضرة فكل شيء مباح.
الفائض الحيوي
لكنْ، ما تلك «الأمة» حقاً؟ يصعب التوصّل إلى جواب فعلي. توجد بالتأكيد فئات متنفّذة ومسيطرة في كل بلد عربي، على اختلاف الظروف والأحوال المحليّة، تسيّر أجهزة الدول، أو تدخل معها في علاقات شديدة التعقيد، وكذلك مع دول خارجية متعددة. وتمارس صنوفاً متعددة من القمع والاستغلال؛ كما قد تتضارب مصالحها إلى درجة الاقتتال الداخلي في ما بينها. إلا أن تلك الفئات ليست «الأمة»، أو حتى تجسيدها الأبرز، لأنها لم تعد تتصرّف بوصفها «طبقة مهيمنة» بالمعنى السياسي والأيديولوجي للمصطلح، أي لا تسعى إلى إنتاج ثقافات وتقاليد وأخلاقيات فعلية، ومعمّمة اجتماعياً؛ كما ترى نفسها في حلّ من تقديم الحد الأدنى من الرعاية للخاضعين لها، بدعاوى مختلفة، من الأزمات الاقتصادية وحتى الحرب مع العدو.
وفي الحالات الأكثر تطرفاً، ترى أنها غير مسؤولة حتى عن استمرار حياة البشر، في الوقت الذي تعرّضهم فيه للحروب والإبادة الجماعية، مكتفيةً بدعوة «العالم» إلى «التحرّك».
ربما سنجد «الأمة» الحقّة في خزان بشري من الذكور الغاضبين، والمتروكين لمصيرهم دون أي أفق أو أمل. هؤلاء من يُهدد «العالم» بهم دوماً، لأنهم قد يتخذون خيارات عدمية أو انتحارية أو تخريبية. وإذا كانت الدول والقوى السياسية قد باتت عاجزة عن إنتاج أي مشروع اجتماعي أو سياسي، فهي ما تزال تمتلك فائضاً حيوياً من البشر المتأزّمين، يمكن التلويح به لتحقيق مكاسب، وعلى رأسها ضمان استمرار تلك الدول والقوى. وبالتالي فإن لسياسات الألم العربية الحالية ضرورتها «الوجودية».
تهديد المتعة
إلا أن التهديد ليس موجّها لـ»الخارج» فقط، فعمليّاً لا يمكن للمجتمعات العربية نفسها أن تواصل الحياة، في ظل المُتع التي يبيحها اقتصاد الألم الحالي. وسيصعب على من ينشدون الحد الأدنى من الاستقرار والأمن والاستمرار، أن يجاملوا إلى الأبد حشداً غاضباً، قد يدمّر أي شيء، عندنا تستثار حساسياته الكثيرة. لا تنبع سلطة ذلك الحشد من كونه يشكّل «أغلبية سياسية» مثلاً، فلا توجد أطر وبنى فعلية لتشكيل أغلبية من هذا النوع، وضبطها، وإنما من استثمار السلطات القائمة فيه، وتغاضيها المتعمّد عن عنفه؛ فضلاً عن محاولات بعض النخب تقديمه ممثلاً لـ»الثقافة» أو «الشعب» أو «الدين»، وبالتالي جوهراً لا يمكن تجاوزه، ويجب أن يحدّ أي أفق نقدي في التفكير العربي المعاصر.
ربما لا يكون هذا الحشد إلا نتيجة فشل السياسات الحيوية، التي اتبعتها دول ما بعد الاستقلال العربية، التي باتت اليوم في وضعية الدول الفاشلة، أو ما هو أسوأ: الدول الراعية للميليشيات، وبالتالي فإن نقد وتفكيك «الحضارة» التي أنتجتها ممكن وضروري دائماً؛ وكذلك فإن «المقاومة» الأكثر جدوى، قد تكون محاولة إعادة إنتاج تقليد متحضّر في العالم العربي، عبر رفض الابتزاز بالحشد وإباحيته، التي باتت مدمّرة للحياة.