اثنا عشر عاماً من ثورة شعب، وأربعون يوماً من الزلزال، عاشهما معاً ملايين السوريين في مواطنهم ومهاجرهم وأماكن النزوح، ومن لم يعشهما واقعاً لبعدٍ جغرافي عايش فيهما، وفي ارتداداتهما، كل عذابات القهر والقسر والعسف والخراب وآلام فقدان الأحبة، لم يخل منها بيت سوري حيثما كان في أرض تضيق عليه بما رحبت. ولكأنما الطبيعة أبت أن تتم الثورة السورية، فريدة الألفية الميلادية الثالثة، عامها الثاني عشر من غير أن تختمها بأربعين يوماً من الزلزال.
كارثة الطبيعة المتمثلة بزلزال هو في ذاكرة الأجيال الأعنف في المنطقة الممتدة جغرافياً من منتصف سوريا الشمالي إلى منتصف الجنوب التركي، ما زالت أرقامها الألفية غير نهائية، وستبقى كذلك ما دامت الأنقاض غير مزالة، والركام جاثماً فوق آلاف ممن ما زالوا في تعداد المفقودين، وإن تقوضت الآمال بنجاة أحد أو عثور على أحياء، لكن الإحصاءات ما زالت ناقصة الثبوت لضحايا زلزال كان أشد كارثية وضرراً منذ لحظته الأولى، ثم بما تبعه من زلازل عدة متقاربة الشدة، وهزات متراوحة، وارتدادات بلغت آلافاً، من غير أن تستقر صفائح أرض في الأعماق وما زالت إلى الآن بساكني سطحها تميد.
فجائعية كارثة الزلزال على السوريين أنها كانت في لحظة واحدة، فكان وقعها صاعقاً، لكنها على هولها وأرقامها المتصاعدة لا تشكل رقماً ملحوظاً كنسبة مئوية أمام أهوال ما تعرض له السوريون عبر سنوات ثورتهم من كل أشكال القتل والتنكيل والاعتقال والتغييب والترهيب والتخريب ومن ثم ما نجم عن كل تلك الأفعال الإجرامية من كوارث على الصعد كافة.
إن أية مقارنة رقمية بين حصيلة كارثة الزلزال من ضحايا فاق عددهم من السوريين عشرة آلاف في كل من سوريا وتركيا، وضعفهم من مصابين، وآلاف البيوت المهدمة والمتصدعة وما استدعته من نوم في العراء وحركات نزوح جديدة، وما ستسجله من تبعات نفسية وصحية ومعيشية وتعليمية واجتماعية لأكثر من مليون متضرر، تبقى كنسبة رقماً أحادياً لا يبلغ في أي جانب منه عُشْر الكارثة الكبرى التي هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من فعل من ينتسبون إلى فصيلة البشر خَلْقاً في حين هم بعيدون عن كل فضيلةٍ خُلُقا.
كارثة الزلزلة على السوريين بأيامها الأربعين مضافة إلى مجموع الكوارث والنكبات التي حلت بهم نتيجة طغيان قاده عمى التمسك بالسلطة مدفوعاً بأجندات إقليمية تتخذ من ترسبات أحقاد باطنة ذريعة لمزيد من الإجرام المؤدلج، خدمةً لمشاريعها الاستراتيجية الطامحة إقليمياً، وشبه مسكوت عنه دولياً في إطار محاولات تشكيل جديد لعالم كاد أن يتعرى من الحدود الدنيا للأخلاق، تضعنا أمام سؤال أهم في ذكرى انطلاقة الثورة السورية، فبعد اثني عشر عاماً من عمر هذه الثورة وما صبت إليه (ما الذي بقي..)؟.
ما الذي بقي..؟
والثورة التي قامت انتفاضةً عارمة لشعب كسرت مجاميعُه في بارقة سانحة لربيع عربي كل قماقم الخوف، وحطمت كل جدران الصمت، لتزلزل عرش منظومة الطغيان في أيام معدودات امتدت فيه شعلتها من أقصى الجنوب إلى أقصى جهات الوطن، وكانت من غير أيديولوجيات ومن غير تحضيرات ولا تحريضات، ومن غير أي أثر فاعل لأحزاب أو تكتلات عملت منظومة الحكم على تصحيرها لعقود ونجحت، لكن الثورة فاجأتها من حيث لم تستطع المنظومات كبح جموح التطلع إلى دولة حرية وكرامة في عصر ما عادت فيه مقصات الرقاب، ولا المقاصل قادرة على وقف سيول المعلومات المتدفقة عالمياً، ولا اجتثاث الأصوات الهادرة بالتغيير وإن توحشت بالتنكيل اعتقالاً وقتلاً واقتلاعاً للحناجر. لكن أصحاب النداء المتصاعد حينذاك -لأجل أن تبقى الثورة من غير قيادات سياسية خوفاً عليها من انحرافات وانجرافات- وجدوا لاحقاً، بين ظهرانيهم وممن جاء من غياهب ليعتلي الظهور، من يحاول حرفها مستجراً خطاب متشدد ومتطرف يتخذ من عاطفة الدين الفطرية ستاراً لأجنداته، ليخلق واقعاً جعل الحاضنة الثورية في تخبط، وأمام أكثر من عدو قديم ومتجدد، ما زالت تعاني حتى في محررها من رواسبه وخلاياه السرطانية النشطة والنائمة، وليتخذ ذريعة من دول تبحث عن الذرائع وإن كانت من الصانعين.
ما الذي بقي..؟
وما استطاعت قوى الثورة المسلحة في سنواتها الأولى من فرضه على الأرض واعتبرته محرراً كان متصلاً من الحدود الأردنية جنوباً إلى التركية شمالاً ومتسع الأرجاء شرقاً وغربا، ثم بدأ الضمور والتقلص وقطع الأوصال بقعة بقعة ليغدو شريطاً في الشمال الغربي تتقاسمه قوتان في طيات كل منهما ما يبقي الاحتمالات غير مأمونة العواقب قائمة في كل لحظة، وخاضعة لضغوطات قوى نافذة، خارجية وداخلية.
ما الذي بقي..؟
وما زالت قوى الثورة على الأرض والحاضنة الشعبية بعيدة عن كل تنظيم مقنع لصفوفها، وفرز فاعل لنخبها، وقناعة بمن يدعي تمثيلها وهي عنه غير راضية، لا عن بنيانه ولا حقيقة تمثيله ولا أدائه السياسي الهزيل. في حين واقع الأمر داخلياً أفرز قواه النافذة بسطوة السلاح وفصائل غير منضبطة تحول بعض قادتها إلى أمراء حرب، وما يزال انضواؤها في هيكلية الجيش الوطني مثار أخذ ورد على الرغم من كل الجهود المبذولة التي قطعت شوطاً، وما زالت تسعى، لكنها لم تبلغ بعد ما يقنع التطلع. في حين المؤسسات الحكومية بإداراتها المدنية والخدمية وبمجالسها المحلية ما زالت تشكو من ضعضعة في الأداء نتيجة توازع التبعيات والولاءات غير المنضبطة في إطار حكومي يبقي مسمى (الحكومة) مظلةً راعية أكثر من كونها سلطة تنفيذية تمارس كامل مهامها ومسؤولياتها على الأرض، ويبقي صوت الحاضنة الذي ارتفع خلال الأشهر الأخيرة بضرورة التمكين مجرد صوت لا يجد منعكسه المرتجى.
ستكثر الأسئلة عما بقي، لكن ثمة أملاً لا يبرح كل نفس ثورية تؤمن في قرارتها بما قامت ثورة الشعب لأجله، وقدمت من التضحيات ما لم يعرفه التاريخ المعاصر في الثورات. تلك الأنفس الحرة التي لم تتمكن كل النوائب والكوارث والجرائم التي شتتها في أصقاع المهاجر وأماكن النزوح ومخيماته من قهر إرادتها.
هل بقي رهاننا الأخير على تلك الروح الثورية؟ وهل تلك الروح بعد اثني عشر عاماً من زلازل الإجرام والطبيعة لم تتزلزل؟
من يستعيد اليوم ما كان قبل اثني عشر عاماً، وما فعلته آنذاك الروح الثورية الكامنة من زلزلة ما زال أثرها مستمراً وكل ارتداداته قائمة، يدرك أن تلك الروح قادرة على الانفجار في كل آن، وأنَّ روح الثورات تبقى مُزلزِلةً وإن اعترتها زلزلة.