المقدمة:
كانت صناديق الاقتراع في زمنٍ مضى تشبه صناديق السحر، تُلقى فيها الأصوات من كل حدبٍ وصوب، لكن ما يخرج منها في النهاية لم يكن سوى ما كتبته المخابرات سلفاً. هناك، في عهد الأسد المخلوع، لم تكن الانتخابات سوى مسرحية يُوزَّع فيها الفرح بالتقسيط، ويُباع فيها الفوز لمن يرضى عنه صاحب الكرسي. كانت الحملات الانتخابية سباقاً في الإنفاق والتزلّف، وكان المرشحون يُقاسون بمدى قربهم من أجهزة الأمن لا بعدد أصوات الناس.
أما اليوم، بعد النصر، وقد ولدت الدولة الجديدة من رماد الخراب والدم، تغيّر المشهد. لا زغاريد مصطنعة، ولا موائد تُقام لتلميع الوجوه، ولا شعارات تُصاغ في دهاليز المخابرات. صارت الانتخابات ميسّرة، بلا صخب ولا شراء ذمم، وكأن البلاد قررت أخيراً أن تسمع صوت المواطن لا صوت المصفقين له. بين الأمس واليوم، فارقٌ شاسع بين من كان يُنتخب بمرسوم، ومن يُنتخب اليوم بإرادة شعبٍ استعاد صوته بعد أن كُتم لعقود.
إلى كل مُرشَّح لم يحالفه الحظ بالفوز بالإنتخابات نقول له : لا تبتئس يا أخي ولا تحزن على عدم فوزك هذه المرة وعليك في مرات قادمة أن تحسبها أكثر فهذه صناديق مغلقة ولا ندري قبل فرزها ما هو مُخبّأ لك بها وأعلم يا عزيزي بأن المنع قد يكون عين العطاء فاقبل بما كتب الله لك …
الجميل بالإنتخابات التشريعية السورية هذه المرّة أنّها مُيسّرة جداً ومجانية بمعنى آخر أن الناجح والخاسر لم يدفعا قرش سوري واحد ( يعني لا زَمر ولا طَبل ولا موائد مفتوحة ولا خرفان مجعدلة ولا وجبات جاهزة ولا اسطول من الحافلات والسيارات ولا زينة ودعايات ولا رشّ وفتات ولا اعلام ومطابع وقماش وحبال وعيدان ولا صور زيتية وملونة ولا مزاد لشراء الأصوات بينما بالمقابل في أيام النظام البائد كان القوم يتنافسون على مقاعد محدودة وما أن يبدأ الطحن حتى يبدأ معه عدّاد الفلوس وما أن تنتهي الانتخابات ويتم اختيار من ترضى عنه المخابرات ولو أنه حصل على أقل الأصوات وأقرب مثال على ذلك حصد جاري المرشح المهندس أحمد محمود المصري على أعلى الأصوات وذلك في الانتخابات التشريعية التي جرت بتسعينات القرن الفائت تلاه بعدد الأصوات المرشح المرحوم أبو عدنان أبازيد وكلاهما نجحا بفارق كبير عن من جاء دونهما وللأسف خرجا من المولد بلا حمص وحجّة المخابرات أنذاك بأن هناك صناديق طيّارة جاءت متأخرة من وعر اللجاة وأخرى نزلت من كوكب المريخ وعطارد وزُحل قلبت الموازين وصعد عِوضاً عنهما من تشتهيه دوائر الأمن والمصيبة الكبرى أن مثل هذه الانتخابات ( التمثيليات ) التي كان النظام يحرص على حصولها ليوهم الداخل والخارج كان القصد منها بث روح الفرقة في جسد الأمة بحيث يبدأ شراء الذمم والحشّد العشائري والتقسيم المناطقي وكم من أحداث دموية مؤسفة وقعت في خِضَمِّ هذه الانتخابات وبقيت بعدها النعرات قائمة والنظام وأجهزته الأمنية تراقب وكلما هدأت زادتها اشتعالاً ولا يفوتني أن أذكر بأن هناك – لقلة عقله – من رهن بيته وباع متاعه واستدان في سبيل خوض غمار انتخابات فاشلة وبعضهم بعد الفشل الذريع مات قهراً والآخر مسّه الجوع والفاقة وركبته الديون والهموم حتى صار حديث الساعة …
الخاتمة:
إنها ليست مجرد صناديق اقتراع، بل صناديق ذاكرةٍ تُذكّرنا كم خُدعنا، وكم صبرنا، وكم نضجنا. فاليوم، حين يصوّت السوريّ، لا يفعل ذلك خوفاً من عيون المخابرات، بل إيماناً بأن صوته له قيمة، وأن الوطن لا يُبنى بالتصفيق، بل بالاختيار الحرّ.
ولعل أجمل ما في خسارة الانتخابات في زمن الدولة الجديدة، أنها لا تعني الهزيمة، بل تعني أن اللعبة أصبحت نزيهة، وأن الصندوق لم يعد يطير من اللجاة إلى زحل ليقلب النتائج. هذه هي سوريا التي حلمنا بها، دولة تُكرّم إرادة أبنائها، وتطوي صفحة الماضي بثقةٍ وشموخ.