ستقف سوريا رغماً عن الحاقدين
في كل شارع تهدّم ثم عاد ينبض بالحياة، وفي كل مدرسة فتحت أبوابها من جديد رغم رائحة الغبار العالق على جدرانها، وفي كل مستشفى عادت أنوارها لتضيء وجوه المرضى، هناك قصة تُروى: أن سوريا لا تموت.
لقد ظنّ كثيرون أن هذه الأرض لن تقوم لها قائمة بعد سنوات الدمار والخذلان، لكن أبناءها أثبتوا أن الانتماء أعمق من الجراح، وأن الحب أكبر من الحقد. حين اجتمع الناس في دير الزور ودرعا وحمص ليطلقوا حملات إعادة الإعمار، لم يجمعوا المال فقط، بل أعادوا الثقة بأن الوطن يمكن أن يتعافى إذا التفّ شعبه حوله. إن الشراكة الصادقة بين الدولة والمجتمع ليست مجرد واجب، بل هي السبيل الحقيقي لنهضةٍ تحفظ الكرامة وتعيد البناء دون الارتهان لشروط الآخرين.
لماذا “رغماً عن الحاقدين”؟
الحاقدون هنا ليسوا فئة واحدة بالضرورة؛ هم أولئك الذين يجتهدون في تصوير سوريا كميدانٍ لا ينتهي للانهيار، ومن يستثمرون في إدارة الأزمة سياسياً أو اقتصادياً لتحقيق مكاسبٍ ضيقة. لكن التاريخ يُعلّمنا أن الدول لا تنهار تماماً عندما يبقى في أرضها من يُريد أن يبني ويُعلم ويرعى ويحلم. صمود المدارس التي تعاود فتح أبوابها، ومشروعات صغيرة تربط المواطن بفرص عمل — كل ذلك يعطي دليلاً بأن الأمة تستطيع أن تنهض رغم كل عدوٍّ داخلي أو خارجي.
لكي تقف سوريا فعلاً — وليس شعاراً على ورقٍ أو بيان صحفي — لا بد من عناصرٍ أربعة متداخلة:
- حماية إنسانية مستمرة: دعمٌ مباشر للأسر العائدة والفئات الضعيفة، لا يقتصر على صفقات إنشائية فقط.
- إدارة شفافة للمشروعات: آليات رقابة واضحة تضمن وصول الموارد إلى مستحقيها وتحد من الفساد.
- شراكات إقليمية ذكية: استثمارات تقرأ الاحتياجات الوطنية ولا تُستخدم كسلاحٍ سياسي.
- بناء مؤسسي وإصلاح اقتصادي: سياسات مالية وصحية وتعليمية تضمن استدامة التعافي.
التلاحم الوطني في حملات إعادة الإعمار
حملة “أبشري حوران” في درعا
انطلقت الحملة من مدرج بصرى الشام الأثري، فجمعت خلال أيام أكثر من 37 مليون دولار، وتحوّلت إلى عرس شعبي ووطني أظهر كيف يمكن لتبرعات الأهالي والمغتربين أن تُعيد للمدينة مدارسها ومراكزها الصحية وخدماتها الأساسية. من أكثر المشاهد المؤثرة مشاركة نساء تبرعن بمقتنيات شخصية ثمينة، تعبيراً عن أن سوريا أغلى من الذهب.
حملة “أربعاء حمص”
في قلب مدينة حمص، أُطلقت حملة “أربعاء حمص” كمبادرة أهلية بالشراكة مع جهات رسمية، فكانت بمثابة يوم أسبوعي تُجمع فيه التبرعات وتُقدّم المساهمات لإعادة إعمار ما تهدّم من أحياء المدينة. هذه الحملة لم تكن مجرد مبالغ مالية، بل جسراً بين المغتربين في الخارج وأهل الداخل، ووسيلة لإعادة إحياء النشاط الاجتماعي والاقتصادي في المدينة. المميز فيها أنها جمعت حولها كل شرائح المجتمع: تجاراً، طلاباً، نساءً، ورجالاً، فأصبحت رمزاً لاستمرار العطاء رغم قسوة الظروف.
حملة “دير العز” في دير الزور
انطلقت في 11 سبتمبر 2025، وتمكنت في أول ساعاتها من جمع أكثر من 30 مليون دولار لدعم مشاريع التعليم والصحة والبنية التحتية. هذه الحملة جسدت إصرار مجتمع بأكمله على إعادة الحياة إلى مدينته المنكوبة، عبر تبرعات ضخمة من الأهالي، المغتربين والمقيمين ، وجهات رسمية ومنظمات إنسانية حيث شهدت حملة “دير العز” تفاعلًا استثنائياً من العشائر المحلية، حيث تهافتت على تقديم يد العون والمساهمة في إعادة إعمار المدينة بعد سنوات من الدمار. كانت مبادرات بعض العشائر بارزة مثل موحسن التي تبرعت بما يقارب 150 ألف دولار، وبلدة البوعمر بما يقارب 50 ألف دولار، بالإضافة إلى مساهمات عشيرة البكارة وعشائر أخرى لم تُعلن أرقامها بدقة لكنها ساهمت بشكل ملموس هذا يعكس التفاف العشائر العربية حول الدولة.
الرسالة الأعمق: بين الشعب والدولة
تؤكد هذه الحملات أن الثقة لا تُصنع بالشعارات، بل بالفعل؛ حين يرى المواطن أن تبرعه يُترجم إلى مدرسة مفتوحة أو مستشفى مؤهّل، تترسخ العلاقة بينه وبين الدولة. وهنا يبرز الفارق الكبير: الاعتماد على الناس والدعم الأهلي يحفظ السيادة ويجنّب البلاد الديون الثقيلة وشروط المقرضين الدوليين ويعزز ثقة المجتمع بالدولة التي تمثله.
خاتمة
درعا بحملتها “أبشري حوران”، وحمص بمبادرة “أربعاء حمص”، ودير الزور بصرخة “دير العز”؛ كلها شواهد حيّة على أن سوريا تُكتب من جديد بيد أبنائها. الالتفاف الشعبي حول الدولة ليس مجرد مساهمة مالية، بل عقد ثقة وتجديد ولاء للوطن. إنها رسالة واضحة: سوريا ستنهض حين يتكامل الشعب والدولة في مشروعٍ واحد، مشروع الحياة بعد الموت، والأمل بعد الانكسار.