تشهد الساحة السورية في الآونة الأخيرة تصاعداً في حدّة التوترات بين أنقرة و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وسط تحذيرات من مسؤولين سوريين بأن تركيا قد تدعم عملية عسكرية جديدة إذا لم يتم تنفيذ اتفاق آذار الموقَّع بين دمشق و”قسد” قبل نهاية العام الجاري.
بحسب ما كشفه مسؤول سوري بارز لوكالة “رويترز”، فإنّ تركيا تنظر إلى الحكم الذاتي الكردي شمالي سوريا باعتباره “تهديداً مباشراً” لأمنها القومي. وتشعر أنقرة، وفق المصدر ذاته، بأنّ الوقت ينفد، خاصة بعد أن منح الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب “حرية التصرف” لها في هذا الملف، وهو ما يزيد من احتمالية التصعيد إذا استمرّت المماطلة في تطبيق الاتفاق.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان صعّد من لهجته، مؤكداً أن “قسد” تتباطأ في تنفيذ اتفاق آذار مع دمشق، بل تحاول استغلال الأوضاع الإقليمية لتعزيز مواقعها، محذراً: “تركيا لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذه التهديدات”.
في المقابل، ظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بلهجة أكثر هدوءاً، مشدداً على أن أنقرة “ضامن لأمن وسلامة الأكراد كما لبقية الشرائح”، وداعياً إلى حل سياسي يقوم على الحوار والدبلوماسية.
بدورها، نفت “الإدارة الذاتية” الكردية أي نية للانفصال عن الدولة السورية، مؤكدة أن تبنيها للحكم اللامركزي لا يعني الانفصال. وشدّدت في بيانها على أن أي حل سياسي يجب أن ينطلق من القرار الأممي 2254، مع استعدادها لتنفيذ اتفاق آذار بمجرد تحديد التوقيت من قبل دمشق.
غير أن هذه التطمينات لم تُقنع الكثير من السوريين، خصوصاً في المناطق ذات الغالبية العربية التي تسيطر عليها “قسد”، حيث تبرز حالة من الرفض الصامت لمشروع اللامركزية الذي يُنظر إليه على أنه غطاء لتكريس سلطة “حزب العمال الكردستاني”.
يشكّل العرب الغالبية السكانية في مناطق سيطرة “قسد”، كما أن نسبتهم تصل إلى نحو 70% من مقاتليها، ما يجعلهم طرفاً أساسياً في أي تسوية سياسية. ومع ذلك، يشير شيوخ العشائر العربية إلى أن “قسد” تقصي المكون العربي عن مواقع القرار، وتفرض سياسة أمر واقع عبر القبضة الأمنية والاعتقالات التي تستهدف أبناء العشائر بذريعة الانتماء إلى “داعش”، بينما الحقيقة – وفق مصادر محلية – أن العديد من المعتقلين جُرمهم الوحيد هو إظهار تقارب مع دمشق.
الشيخ سالم العلي، شيخ عشيرة البوسبيع، قال بوضوح: “العرب في مناطق سيطرة قسد يرفضون مشروع الحكم اللامركزي، لكن القبضة الأمنية تمنعهم من التعبير عن ذلك”.
على الطرف الآخر، تتحرك تجمعات عشائرية وسياسية خارج مناطق “قسد” ضد مشروع اللامركزية، مثل “مجلس التعاون والتنسيق في الجزيرة السورية والفرات”، الذي أكد ناطقه الرسمي رفض أي شكل من أشكال الفدرالية أو اللامركزية السياسية والعسكرية.
كما يؤكد رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية، مضر حماد الأسعد، أن العرب يطالبون بلامركزية إدارية تشمل جميع المحافظات السورية في إطار دولة موحدة، بعيداً عن أي مشاريع إثنية أو فدرالية مفروضة من الخارج.
يرى باحثون أن ما تطرحه “قسد” ليس سوى إعادة إنتاج لمركزية حزبية ضيقة مرتبطة بـ”حزب العمال الكردستاني”، حيث يتم إقصاء العرب عن مواقع القرار الحقيقية. الباحث سامر الأحمد من الحسكة يوضح أن “الحكم اللامركزي الذي تتحدث عنه قسد مجرد شعار، بينما السلطة الفعلية محصورة في دائرة ضيقة مرتبطة بقيادات حزبية”.
في موازاة هذه التطورات، تسعى الحكومة السورية لاحتواء أزمة السويداء التي أدت إلى نزوح عشرات الآلاف. المسؤول السوري الذي تحدث لـ”رويترز” أشار إلى أن عودة النازحين وتبادل الأسرى بين الدروز والبدو يمثلان خطوة أولى نحو المصالحة، رغم أن معالجة الانقسامات قد تستغرق سنوات.
رسائل أوجلان ومحاولة استمالة العشائر
الزعيم الكردي المعتقل في تركيا، عبد الله أوجلان، دخل على خط الأزمة برسالة إلى شيوخ العشائر العربية دعاهم فيها إلى تعزيز روابط الأخوة مع الكرد ودعم “قسد” ضمن ما وصفه بمشروع “الأمة الديمقراطية”. غير أن هذه الرسالة قوبلت برفض ضمني من معظم العشائر العربية التي ترى في المشروع محاولة لفرض أمر واقع لا ينسجم مع وحدة سوريا.
الخلاصة
المشهد في شمال شرقي سوريا يبدو معقداً أكثر من أي وقت مضى. أنقرة تلوّح بالتصعيد العسكري، “قسد” تصرّ على نموذجها اللامركزي، والعرب يعيشون بين الرفض الصامت والضغوط الأمنية، فيما تبقى دمشق متمسكة بموقفها الرافض لأي صيغة سياسية خارج إطار الدولة الموحدة. وبين هذه الأطراف، يظل مستقبل المنطقة مفتوحاً على كل السيناريوهات، من الحوار والتسوية إلى المواجهة العسكرية.