بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2028، وجدت سوريا نفسها أمام تحدٍ غير مسبوق: كيف يمكن إعادة بناء الثقة في عملة فقدت قيمتها ورمزيتها على حد سواء؟ فقد تحولت الليرة السورية خلال سنوات الحرب والانهيار إلى مجرد ورق بلا غطاء، تدور حوله المضاربات وتتحكم به السوق السوداء، في ظل اقتصاد ممزق ومؤسسات منهكة.
ومن هنا، جاء قرار المصرف المركزي بإطلاق الليرة السورية الجديدة كخطوة استراتيجية تسعى إلى إعادة ضبط التوازن النقدي، وإنهاء فوضى الأموال المهربة، وفتح صفحة جديدة في الحياة الاقتصادية للبلاد.
القرار لم يكن مجرد تغيير شكلي في تصميم الأوراق النقدية، بل محاولة لمعالجة أزمة عميقة الجذور. فالمليارات من الليرات التي هربها مقربون من النظام السابق إلى الخارج كانت قادرة على التحكم في أسعار الصرف وإفشال أي سياسة مالية. وفي المقابل، بقيت البنوك المحلية شبه فارغة من السيولة، ما خلق مفارقة خطيرة: وفرة نقدية في السوق السوداء مقابل شح في القنوات الرسمية.
الليرة الجديدة تهدف إلى كسر هذه الحلقة. فبمجرد فرض فترة محددة لاستبدال الأوراق القديمة بالجديدة، تصبح الأموال المهربة بلا قيمة ما لم تدخل النظام المصرفي وتخضع لرقابة الدولة. وهكذا تتحول الخطوة إلى أداة لإعادة الإمساك بزمام الدورة النقدية، وتجفيف منابع الفساد والاقتصاد غير الشرعي.
لا يكفي أن تُطبع أوراق نقدية جديدة حتى تستعيد العملة قيمتها. نجاح الإصدار يتوقف على بناء أرضية اقتصادية متينة، أبرز ملامحها:
إصلاح النظام المصرفي: تعزيز ثقة المودعين وحماية أموالهم، بما يمنع عودة الناس إلى السوق السوداء.
الانفتاح على المصارف الإقليمية والدولية: خطوة تمنح الليرة الجديدة ثقة خارجية وتدعم الاستثمار.
سياسة نقدية مستقلة: منع طباعة النقود بلا غطاء مالي، وترك المصرف المركزي يعمل وفق معايير مهنية بعيدة عن الضغوط السياسية.
دعم الإنتاج المحلي: لا قيمة لأي عملة إذا لم يقابلها توفر للسلع والخدمات.
إدارة الاحتياطيات بذكاء: عبر موازنة بين الذهب والعملات الأجنبية لتثبيت سعر الصرف.
التحديات التقنية والعملية
إصدار عملة جديدة ليس بالأمر السهل. فهو يتطلب تصميمات تحمل رموزاً وطنية جامعة بعيداً عن صور الماضي، وتقنيات أمان متطورة ضد التزوير. كما يشمل الأمر ترتيبات سرية للطباعة في أكثر من بلد، وضمان نقلها وتوزيعها بشكل آمن إلى الداخل.
الأهم من ذلك هو إعداد المجتمع نفسياً لاستقبال العملة الجديدة عبر حملات توعية، توضح آليات الاستبدال وتكشف الغاية من الإصدار، بما يمنع انتشار الشائعات أو استغلال المواطنين من قبل المضاربين.
لا تقتصر أهمية الليرة الجديدة على بعدها الاقتصادي. فهي تحمل رسالة سياسية واضحة: أن سوريا دخلت مرحلة جديدة لم تعد فيها العملة أداة بيد نظام استبدادي، بل رمز سيادي يعبر عن دولة تسعى للشرعية والاستقرار.
كما أن تجفيف أموال الفلول يعني تقليص قدرتهم على التأثير في الداخل، ما يرسخ سلطة الدولة الجديدة ويعزز الاستقرار السياسي. وعلى الصعيد الخارجي، تمثل الليرة الجديدة إشارة إلى الشركاء الدوليين بأن البلاد جادة في إعادة بناء اقتصادها على أسس شفافة ومعايير عالمية.
خاتمة
إطلاق الليرة السورية الجديدة هو أكثر من مجرد استبدال ورق نقدي؛ إنه معركة مالية حاسمة تختصر في داخلها صراعاً بين ماض مثقل بالفساد والانهيار، ومستقبل يتطلع إلى الاستقرار والسيادة الاقتصادية. نجاح هذه التجربة سيتوقف على قدرة الدولة على الجمع بين الإصلاحات الجادة والسياسات الرشيدة، لتتحول العملة الجديدة من ورقة نقدية إلى رمز لنهضة وطنية واقتصادية حقيقية.