في 8 آب/ 2025 انعقد في مدينة الحسكة مؤتمرٌ حمل عنوان “وحدة موقف مكوّنات شمال وشرق سوريا” بدعوة من قوات سوريا الديمقراطية (قسد). أما شعاره “معاً من أجل تنوُّع يعزز وحدتنا، وشراكة تبني مستقبلنا”، فقد بدا منذ اللحظة الأولى غطاءً باهتًا لإخفاء مأزق عميق تعيشه قسد وحلفاؤها من فلول النظام وبعض الرموز الطائفية الذين لم يجدوا سوى لعب دور الكومبارس في مسرحية سياسية رديئة الإخراج.
المؤتمر الذي استُجلبت إليه وجوه مثل حكمت الهجري وغزال غزال، لم يكن تعبيراً عن “تنوع سوري حقيقي”، بل كان انعكاساً صارخاً لتحالف انتهازي بين بقايا سلطة متآكلة تبحث عن شرعية، ومشروع انفصالي فقد كل أوراقه، فحاول الاحتماء بشعارات “الشراكة والوحدة” بعد أن انكشف رهان “الحكم الكردي الأحادي” على الأرض.
قسد ومشروعها الذي انهار قبل أن يولد
منذ البداية، لم تكن قسد سوى واجهة عسكرية لمشروع حزب العمال الكردستاني (PKK) في سوريا، عبر ذراعه السياسي حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD). المشروع الذي أراد فرض سلطة قومية ضيقة على منطقة ذات غالبية عربية واسعة. لكن الوقائع – من انتفاضة السويداء إلى تصاعد تمرد العشائر العربية – أثبتت أن المنطقة لا يمكن أن تُحكم بقبضة كردية مدعومة بسلاح وغطاء أجنبي.
اليوم، بعدما تهاوت أحلام “الإقليم الكردي“، تحاول قسد الالتفاف على هزيمتها عبر خطاب “وحدة المكونات“، بينما يعرف الجميع أن هذه الوحدة لا تعني سوى محاولة تلميع مشروعها المأزوم وإعادة تسويقه بلبوس جديد.
لجأت قسد طوال السنوات الماضية إلى الاحتماء بالدعم الأمريكي، واللعب على تناقضات موسكو وباريس وتل أبيب. غير أن التطورات الأخيرة أوضحت بجلاء أن واشنطن لن تسمح لها بالانزلاق نحو صدام شامل مع دمشق، وأن موسكو عادت إلى توطيد تحالفها مع الحكومة السورية، بينما تراجع الدور الفرنسي والإسرائيلي إلى مجرد مناورات لا قيمة عملية لها.
أما تركيا، فقد رسمت خطًا أحمر صارماً: لا كيان كردي على حدودها، ولو استدعى الأمر تدخلاً عسكريًا مباشراً. وهو موقف يحظى بدعم دولي واسع، ما يجعل قسد اليوم محاصرة سياسياً، عسكرياً، واقتصادياً.
إقحام حكمت الهجري وغزال غزال في المؤتمر بدا أقرب إلى محاولة بائسة لإضفاء “شرعية دينية” على مشروع قسد. غير أن هذه الوجوه لم تمثل يوماً الموقف الوطني السوري العام، بل أظهرت استعداداً للعب دور التابع والديكور السياسي في أي مشروع يضمن بقاء نفوذها المحلي أو مكاسبها الشخصية. إنهم أشبه بـ”شهود زور” يزيّنون مشهداً ميتاً منذ ولادته.
الحقيقة أن المؤتمر لم يكن سوى ورقة ضغط لتحسين شروط التفاوض مع دمشق حول اتفاق 10 آذار/ مارس 2025. فبينما تتمسك الحكومة السورية بتنفيذ الاتفاق ضمن إطار السيادة الوطنية ووحدة الأراضي السورية، تحاول قسد جرّ العملية نحو مكاسب إضافية عبر التلويح بـ”إجماع المكونات” و”الإدارة الذاتية”. غير أن كل ما تفعله هو إعادة تدوير خطابها لتكسب الوقت، دون أن تمتلك فعليًا مقومات الصمود أمام الإجماع الإقليمي والدولي على بقاء سوريا موحدة.
خلاصة:
مؤتمر الحسكة لم يكن سوى صرخة يأس من مشروع انفصالي يتهاوى. قسد تدرك أن أيامها كسلطة أمر واقع باتت معدودة، وأنها ستضطر عاجلاً أم آجلاً للعودة إلى حضن الدولة السورية وفق شروط دمشق لا وفق أوهامها. أما الرموز الطائفية التي حضرت لتجميل المشهد، فهي تكشف فقط مدى الإفلاس السياسي الذي وصل إليه هذا المشروع، إذ لم يبق له إلا الاستعانة بفلول النظام وبقايا “زعامات” تبحث عن دور في أي مسرحية.
إن ما جرى في الحسكة هو أبعد ما يكون عن “وحدة موقف المكونات”، بل هو محاولة يائسة لإحياء كيان مشوّه ولد ميتاً، ومصيره أن ينتهي كما انتهت كل المشاريع الانفصالية: على هامش التاريخ، لا في متنه.