في فجر الحادي والعشرين من /آب 2013، لم يكن على أهالي الغوطة الشرقية ما ينذرهم بأن النوم الذي أسدل جفونه عليهم سيكون الأخير. في صمت الليل، تسلّل الموت بلا دويّ قذائف ولا هدير طائرات، بل عبر غازٍ عديم اللون والرائحة، لكنه قاتل. كان الناس يستيقظون على سعال حاد، عيون دامعة، أجساد ترتجف، وأطفال يتخبطون في أحضان أمهاتهم. لم يكن لهم وقت ليودّعوا بعضهم، فقد كان السارين أسرع من أي كلمات أخيرة.
في زملكا ومعضمية الشام وعين ترما وجوبر، سالت الأرواح لا الدماء، وتحوّلت الشوارع إلى مشاهد لا تُمحى من ذاكرة الإنسانية: جثث مصطفّة، رغوة تخرج من أفواه الضحايا، ووجوه متيبّسة تحمل رعب اللحظة الأخيرة. أكثر من 1100 روح بريئة أُزهقت في ساعات معدودة، بينما أصيب الآلاف بالاختناق، في واحدة من أبشع جرائم العصر الحديث.
بدأ الهجوم قرابة الساعة الثانية والنصف فجراً، حيث أُطلقت عشرات الصواريخ المحمّلة بغاز السارين من مواقع عسكرية تابعة للواء 155 قرب دمشق. وعلى عكس القصف التقليدي، لم يُسمع انفجار يثير الفزع أو يُنذر بالخطر. لقد كان السلاح صامتاً، والقتل بارداً، في ليلة ساعد فيها سكون الهواء على تراكم الغازات القاتلة في الأزقة والبيوت المنخفضة.
استيقظ آلاف المدنيين على صرخات الاختناق، بينما تحوّلت المستشفيات الميدانية إلى مشاهد فوضوية عاجزة. أطباء منهكون حاولوا إسعاف مئات الحالات دفعة واحدة بالخل والماء والأكسجين، لكن الموت كان أسرع.
الحصيلة الموثقة وصلت إلى أكثر من 1144 قتيلاً، بينهم مئات الأطفال والنساء، وأكثر من 6000 مصاب نُقلوا وهم يختنقون ويصارعون لأخذ شهيق قد يكون الأخير.
يقول محمد الناجي الوحيد من عائلته:
“سمعت صفيرًا خافتًا… ثم شعرت بحرقة في عينيّ وأنفي. خرجت أركض، لكنّي لم أجد إلا جثثاً هنا وهناك. لم يعد الخوف يغادرني منذ تلك الليلة.”
أما المسعف محمد بركات، فقد وصف المشهد قائلاً:
“الرغوة تخرج من أفواههم، العيون مفتوحة على رعب لا ينتهي… كان الشارع ممتلئًا بالجثث، لم نعرف من أين نبدأ.”
بينما روى الطبيب محمد أحمد سليمان بمرارة:
دفنّا عائلات كاملة في قبور جماعية. لم نستطع أن نمنحهم حتى كرامة الوداع.
هذه الشهادات ليست مجرد كلمات، بل أدلة حيّة على أن المجزرة لم تكن أرقاماً في تقرير، بل حياةً انطفأت ومآسي تُورّث.
أثار الهجوم ضجة عالمية واسعة، لكن الضجة سرعان ما تلاشت أمام حسابات السياسة. صدرت إدانات دولية واستنكارات واسعة، ودعوات لتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية في سوريا، لكن لم تُتخذ خطوات جدّية لمحاسبة المسؤولين.
الولايات المتحدة وفرنسا هددتا بالرد، ثم اكتفى العالم بصفقات دولية أُعلن فيها عن تسليم بعض الأسلحة الكيميائية، فيما بقيت المحاسبة غائبة، لتتكرّس خيبة السوريين بأن العدالة مؤجلة أو ربما منسية.
اليوم، في 21 أغسطس/آب 2025، بعد مرور اثني عشر عاماً، يقف السوريون في الغوطة الشرقية وقد تحرروا من حكم الأسد لأول مرة ليحيوا الذكرى بأصواتهم الحرة. في الشوارع والمساجد، علت التكبيرات وتُليت أسماء الضحايا، بينما رفع الأطفال صور آبائهم وأمهاتهم الذين رحلوا في تلك الليلة السوداء.
في زملكا، وقفت طفلة تقول:
“أنا عايشة يا بابا، أنا عايشة”،
في استذكار مؤلم لصوت الطفولة التي قاومت الموت. هذه الذكرى لم تعد مجرد بكاء على الماضي، بل تأكيد أن الذاكرة باقية، وأن الغوطة لن تُمحى من تاريخ الإنسانية.
خاتمة:
مجزرة الغوطة ليست حدثاً عابراً في الثورة السورية، بل وصمة في جبين العالم بأسره. في كل ذكرى، تتجدد الصرخة: العدالة ليست ترفاً بل واجباً، والذاكرة ليست عبئاً بل أمانة.
قد تحررت الغوطة اليوم، لكن تحرير الذاكرة لا يكتمل إلا بمحاسبة المجرمين وإنصاف الضحايا. فالمجازر لا تموت بانتهاء رائحة الغاز، بل تبقى حيّة في قلوب الناجين، وفي وجدان كل إنسان يرفض أن يتكرر ذلك الفجر الذي اختنق فيه حتى الهواء.