في مساءٍ ثقيل بالذكريات، ظهر شريط قصير على شاشة هاتف ملايين السوريين، لكن ثقله لم يكن في دقائقه القليلة، بل في الوجوه التي حملها. وجوهٌ عرفها السوريون جيداً، لا من شاشات الأخبار فقط، بل من زنازين التحقيق، ومن أصوات الرصاص في الشوارع، ومن قرارات الاعتقال التي مزقت العائلات، ومن الجنازات التي ودّعت أحباباً رحلوا تحت التعذيب أو على حواجز الموت.
كان المشهد هذه المرة مختلفاً: تلك الوجوه التي اعتادت أن تُرى خلف مكاتب السلطة أو منصات الخطابة أو ممرات السجون المظلمة، كانت الآن جالسة أمام قاضً رفض أوامرهم ونشق عن اجرامهم، يُواجهها بأسئلة عن الجرائم التي كانت، حتى الأمس القريب، محمية بسطوة النظام المخلوع.
في اللقطات، بدا أحمد بدر الدين حسون، بصوته الذي طالما برر القتل باسم الدين، ومحمد إبراهيم الشعار، الوزير الذي أمر بفتح النار على صدور المتظاهرين، وإبراهيم الحويجة، صاحب الأوامر التي أرسلت آلاف الشباب إلى أقبية المخابرات الجوية بلا عودة، وعاطف نجيب، الذي بصق على دموع أهالي أطفال درعا واعتقلهم بلا رحمة.
لم يكن المشهد مجرد جلسة تحقيق، بل كان انعكاساً لسنوات الألم السوري، حين اجتمع الاستبداد بالدين والسياسة والأمن في منظومة واحدة هدفها سحق حلم الحرية. كان الفيديو كمن يفتح نافذة صغيرة على لحظة كان يراها السوريون مستحيلة: أن يُسأل الجلاد عن جريمته، ولو أمام كاميرا، ولو للحظات.
ماذا أظهر التسجيل؟
التسجيل، الذي نشرته وزارة العدل السورية يوم الخميس عبر منصتها على تلغرام تحت عنوان “تحقيقات تحت مظلة القضاء”، وثق مشاهد من استجواب أربعة من أبرز الشخصيات الأمنية والسياسية في عهد بشار الأسد المخلوع، وهم يواجهون تهماً ثقيلة تتعلق بالقتل العمد، والتعذيب المفضي إلى الموت، والتحريض على إثارة الحرب الأهلية، والمشاركة في جرائم منظمة ضد المدنيين.
أبرز المتهمين وجرائمهم
أحمد بدر الدين حسون – المفتي السابق للجمهورية (2005–2021): استخدم موقعه الديني لتبرير العنف، وحرّض علناً على سحق الثورة، ما وفّر غطاءً معنوياً للقتل والاعتقال.
محمد إبراهيم الشعار – وزير الداخلية الأسبق (2011–2018): أشرف على الأجهزة الأمنية التي نفذت اعتقالات جماعية، وتعذيب ممنهج، وقمع دموي للمظاهرات، وارتبط اسمه بمجازر ميدانية.
إبراهيم الحويجة – مدير إدارة المخابرات الجوية الأسبق: أحد أبرز قادة القمع الأمني، مسؤول عن مداهمات واعتقالات طالت آلاف المدنيين، وعن التعذيب المفضي إلى الموت في مراكز التحقيق.
عاطف نجيب – رئيس فرع الأمن السياسي في درعا سابقاً وابن خالة بشار الأسد: أشعل شرارة الثورة باعتقال أطفال كتبوا شعارات الحرية، وتعذيبهم بوحشية، ورفض الإفراج عنهم رغم توسلات أهاليهم، ثم أمر بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين.
ان مشهد مثول هؤلاء المجرمين أمام القضاء هو صفحة جديدة تُكتب في كتاب الثورة، وإشارة إلى أن الظلم مهما طال، لا بد أن ينكسر. الثورة التي انطلقت من صرخة أطفال درعا ومن دماء الشهداء الأوائل، ما زالت حيّة في القلوب، ومطلبها الأصيل — الحرية والكرامة — ما زال البوصلة التي لا تنحرف.
وبين الأمس الذي كان فيه الوطن أسيراً، واليوم الذي بدأ فيه فجر الحساب، يمكن للسوريين أن يرفعوا رؤوسهم قائلين بثقة:
اليوم عاد الوطن إلى أصحابه.