في زيارة وُصفت بأنها بالغة الأهمية في توقيتها ومضمونها، حلّ وزير الخارجية السوري في الحكومة السورية الجديدة، الدكتور حسان الشيباني، ضيفاً على العاصمة الروسية موسكو، حاملاً في حقيبته السياسية ملفات معقدة تتطلب مناقشات دقيقة مع القيادة الروسية. وتأتي هذه الزيارة في وقت تشهد فيه سوريا تحولات جذرية على مستوى بنيتها السياسية، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، وسط تقاطع مصالح إقليمية ودولية في الملف السوري.
لا يمكن النظر إلى زيارة الشيباني لموسكو كزيارة بروتوكولية تقليدية، بل كحدث سياسي بامتياز يعكس بوضوح بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين دمشق وموسكو. فالحكومة السورية الجديدة التي انبثقت عن واقع سياسي مختلف بعد احتجاجات السويداء وتراجع القبضة الأمنية للنظام السابق، جاءت محمّلة بشرعية ثورية تبحث عن اعتراف دولي، وتدرك أن طريقها إلى إعادة البناء السياسي والاقتصادي لا يمكن أن يُختزل في مجرد استبدال الحلفاء، بل في إعادة تعريف المصالح الاستراتيجية مع الدول الكبرى، وفي مقدمتها روسيا.
ما الذي يبحثه الوفد السوري في موسكو؟
1. إعادة صياغة اتفاق فك الاشتباك مع إسرائيل
ضمن سياق التغيّر الجيوسياسي الحاصل، يسعى الوفد السوري إلى استثمار التوازنات الدولية الجديدة للبحث في إمكانية تجديد اتفاق 1974 لفك الاشتباك مع إسرائيل، أو التوصل إلى صيغة أمنية جديدة تتيح لسوريا الجديدة مجالاً للمناورة السياسية دون الانجرار إلى تطبيع شامل مع تل أبيب، وهو ما يرفضه الشارع السوري، لا سيما بعد تصعيد إسرائيل الأخير في استهداف وزارة الدفاع في دمشق، وتحريضها غير المباشر على تقسيم البلاد عبر دعم التوجهات الانفصالية في السويداء.
2. ملف النفوذ الإيراني في سوريا
كان لإيران دور حاسم في دعم النظام السابق، بدعم ضمني من روسيا. إلا أن المرحلة الحالية تستوجب مراجعة هذا النفوذ، في ظل توجه الحكومة السورية الجديدة لتقليص أي تأثير خارجي يُهدد السيادة الوطنية. موسكو، التي سمحت سابقاً بتمدد إيران العسكري والسياسي في سوريا، باتت أمام اختبار في موقفها من رغبة دمشق الجديدة في إنهاء الهيمنة الإيرانية على القرار السيادي.
3. رفع تصنيف الإرهاب
يأمل الشيباني وفريقه في أن تنجح جهودهم في إنهاء التصنيف الدولي لبعض الجماعات السياسية أو العسكرية السورية كمجموعات إرهابية، وهو تصنيف لطالما استُخدم كسلاح سياسي بوجه قوى المعارضة والثورة. ويعوّل السوريون الجدد على توافق أميركي-روسي في هذا المجال، ما سيمنحهم مساحة أوسع للتحرك دولياً.
4. تسليم الأسد وكبار المجرمين
من الملفات الشائكة التي سيطرحها الوفد السوري مسألة تسليم رأس الاجرام بشار الأسد وبعض كبار رموز النظام الذين يختبئون في روسيا، في ظل وجود مذكرات توقيف دولية ومحلية بحقهم. إنه مطلب قانوني وشعبي، يعكس رغبة السوريين في طيّ صفحة من تاريخهم لا يمكن تجاوزها دون عدالة انتقالية حقيقية.
5. ملف “قسد”
الوضع في شمال شرق سوريا لا يمكن تجاهله، خصوصاً في ظل الوجود الروسي في مطار القامشلي. تسعى دمشق الجديدة إلى التفاهم مع موسكو حول مستقبل قوات سوريا الديمقراطية، في إطار وطني جامع لا يُقصي أحداً، لكنه يرفض في الوقت نفسه مشاريع التقسيم.
6. تسليح الجيش السوري الجديد
معظم ترسانة الجيش السوري خلال العقود الماضية كانت روسية المنشأ. واليوم، وبعد إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، تبحث الحكومة الجديدة عن شراكة دفاعية جديدة قائمة على الشفافية والتوازن، تضمن بناء جيش وطني مهني ومستقل عن الولاءات الخارجية.
7. القواعد العسكرية الروسية
مصير القواعد الروسية في طرطوس وحميميم هو ملف حساس سيُطرح بهدوء، خاصة أن وجودها كان مرتبطاً بالنظام السابق. دمشق الجديدة لا تسعى إلى قطع العلاقة العسكرية مع موسكو، لكنها تطالب بإعادة النظر في شكل هذا الوجود، وملاءمته للسيادة الوطنية.
8. الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية السابقة
في ظل تغير طبيعة الحكم في سوريا، تتجه الحكومة الجديدة إلى مراجعة كافة الاتفاقيات التي تم توقيعها في عهد النظام السابق، سواء تلك المتعلقة بالاستثمارات في الساحل، أو بالتعاون العسكري، خصوصاً أن الكثير منها شابته شبهات فساد ومحاباة.
9. إعادة الإعمار وملف القمح
تدرك الحكومة السورية أهمية روسيا كمصدر أساسي للقمح والطاقة، إلا أن علاقة التبعية لم تعد مقبولة. تسعى دمشق إلى اتفاقيات متوازنة تضمن الأمن الغذائي دون ارتهان، خصوصاً في ظل التوجه نحو علاقات أوسع مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في ملف إعادة الإعمار.
10. التنسيق الأمني ومحاربة الإرهاب
يبقى التنسيق الأمني ومكافحة الإرهاب بنداً رئيسياً على جدول الزيارة، في ظل وجود جماعات متطرفة ما تزال تنشط في بعض المناطق. دمشق الجديدة ترى أن الحرب على الإرهاب يجب أن تكون شاملة، وتُوظف لخدمة السلام وليس الاستبداد.
بين موسكو ودمشق الجديدة.. من يحتاج من؟
من الواضح أن ما يمكن أن تكسبه دمشق الجديدة من روسيا في هذه المرحلة يفوق ما يمكن أن تكسبه موسكو من سوريا. فالحكومة السورية الحالية باتت تمثل شريكاً سياسياً يحظى بدعم دولي، وتسعى إلى بناء سياسة خارجية متوازنة، تضعها ضمن المحور الدولي المتقدم، لا ضمن معسكرات معزولة عن الواقع.
سوريا الجديدة لا تُنكر أهمية موسكو كقوة دولية فاعلة، لكنها لم تعد تطلب الحماية، بل تبحث عن شراكة تقوم على المصالح والاحترام المتبادل. فوزير الخارجية الشيباني لا يمثل حكومة انتقالية ضعيفة، بل سلطة شرعية بثقل شعبي وثوري، هدفها إنهاء إرث النظام السابق وصياغة علاقات خارجية جديدة، تقوم على قاعدة: “صفر مشكلات مع العالم”، و”لا وصاية بعد اليوم”.
خلاصة
زيارة الشيباني إلى موسكو تمثل اختباراً حقيقياً لقدرة روسيا على التكيف مع سوريا الجديدة، والتخلي عن تحالفها مع نظام ساقط أخلاقياً وسياسياً. كما تمثل فرصة لسوريا لاستعادة دورها الطبيعي في الإقليم، على قاعدة السيادة والكرامة والتعددية. فهل تكون موسكو على قدر هذا التحول التاريخي، أم تفضل البقاء في ظل الماضي؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة.