الاقتصاد السوري بين المركزية واللامركزية:
تُعد المسألة الاقتصادية في سوريا من أبرز أوجه التحدي في مرحلة ما بعد الحرب، إذ لا تقتصر على إعادة الإعمار أو التنمية فقط، بل تتجاوز ذلك إلى السؤال الأكثر تعقيداً: أي نموذج اقتصادي سيُبنى عليه مستقبل الدولة السورية؟ بين مركزية اقتصادية راسخة تاريخياً ولامركزية ناشئة فرضتها الوقائع الجغرافية والسياسية الجديدة، يبرز جدل واسع حول أي الاتجاهين يُمثل خياراً واقعياً وآمناً لإعادة بناء الاقتصاد الوطني.
أولاً: المركزية الاقتصادية.. إرث الدولة الشمولية
منذ الاستقلال، تبنّت سوريا نموذجاً مركزياً في إدارة الاقتصاد، تفاقم مع صعود التيارات الاشتراكية في الستينيات، وتكرّس لاحقاً مع النظام البعثي الذي أسس لمركزية صارمة تمركزت في العاصمة دمشق. هذه المركزية لم تكن مجرد آلية إدارية، بل تعبير عن رؤية سياسية ترى في الدولة الجهاز الوحيد القادر على التخطيط والإشراف والرقابة على الدورة الاقتصادية بكاملها.
وقد انعكس ذلك في سيطرة الحكومة على مفاصل الاقتصاد، من المصارف العامة إلى شركات القطاع العام، ومن السياسة المالية إلى التحكم بالأسواق. وحتى في ظل انفتاح محدود على القطاع الخاص في العقود الأخيرة، بقي القرار الاقتصادي يُصاغ في المركز، فيما حُرمت الأطراف من أي دور فعّال في التنمية المحلية.
إلا أن هذا النموذج أظهر هشاشته مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، حين تصدّعت السلطة المركزية وتفككت العديد من مؤسساتها. وسرعان ما نشأت أنماط بديلة للحوكمة المحلية في مناطق خرجت عن سيطرة النظام، من المجالس المحلية في الشمال إلى الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، مما فتح الباب أمام ما يمكن تسميته بـ”اللامركزية القسرية”.
ثانياً: اللامركزية الاقتصادية.. من استجابة ظرفية إلى خيار استراتيجي
تُعرف اللامركزية الاقتصادية بأنها نقل جزئي أو كامل للصلاحيات المالية والتنموية إلى مستويات حكم محلية أو إقليمية، بهدف تمكين المناطق من إدارة شؤونها وفق خصوصياتها. لكن في الحالة السورية، لم يكن هذا التحول ناتجاً عن رؤية إصلاحية، بل جاء كاستجابة ظرفية لانهيار السلطة المركزية.
ففي ظل تراجع مؤسسات الدولة، اضطرت المناطق إلى ابتكار آليات ذاتية لإدارة مواردها وخدماتها، ما أدى إلى ظهور نماذج غير متجانسة من الحوكمة، تفتقر في مجملها إلى الشرعية الوطنية أو الدعم المؤسساتي. ورغم أن بعضها أظهر مرونة وقدرة على الاستجابة، إلا أنها بقيت محكومة بأجندات محلية، وأحياناً خارجية، مما يثير القلق بشأن مستقبل الاقتصاد الوطني إذا استمر هذا المسار دون تأطير قانوني ورؤية جامعة.
ثالثاً: هل من نماذج إقليمية تحذيرية؟
التجربة العراقية بعد عام 2003 تُعد مثالاً حياً على المخاطر التي قد تنجم عن الانتقال غير المنضبط إلى اللامركزية. فرغم أن العراق تبنّى دستورياً النموذج الفيدرالي، إلا أن غياب مؤسسات رقابية فعّالة وعدالة في توزيع الموارد أديا إلى ولادة كيانات محلية شبه مستقلة، استخدمت صلاحياتها لترسيخ الفساد وتعميق الانقسامات، بدلاً من تعزيز التنمية.
كما تُبرز تجربة البوسنة والهرسك بعد اتفاق “دايتون” المخاطر ذاتها، حيث قادت اللامركزية إلى “تجميد مؤسسي” وتعطيل تنسيق السياسات العامة، مما عطّل النمو الاقتصادي لعقود. هذه التجارب، رغم اختلاف السياق السوري عنها، تقدم دروساً واضحة بأن اللامركزية الاقتصادية ليست بالضرورة طريقاً إلى العدالة والفعالية، ما لم تُصمم في إطار عقد اجتماعي جديد ومؤسسات قوية.
رابعاً: اللامركزية بين التمكين والتهميش
يكمن التحدي الأكبر في تطبيق اللامركزية الاقتصادية في سوريا في كيفية تجنب تحويلها إلى أداة لإعادة إنتاج الفوارق. فالمناطق السورية ليست على قدم المساواة؛ هناك تفاوت هائل في البنية التحتية، والموارد الطبيعية، والكوادر البشرية. وفي حال تم تفكيك سلطة المركز دون توفير شبكات دعم متوازنة، فقد يؤدي ذلك إلى تهميش المحافظات الأضعف وتعزيز هيمنة المناطق الأقوى.
من هنا، فإن أية خطة لامركزية اقتصادية يجب أن تتضمن آليات لإعادة التوزيع العادل للموارد، وتكافؤ الفرص التنموية، من خلال مؤسسات مستقلة، مثل هيئة وطنية لتوزيع العائدات، تضمن الشفافية، والمشاركة المجتمعية، والرقابة المؤسسية.
خامساً: نحو رؤية وطنية فوق–محلية
إن النقاش حول المركزية واللامركزية في الاقتصاد السوري يجب أن يتجاوز البعد التقني، ليطال جوهر المشروع الوطني لسوريا المستقبل. فالسؤال ليس فقط من يدير المال؟ بل كيف نعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، وبين المركز والأطراف؟
التحول إلى لامركزية مرنة قد يكون ضرورة تاريخية تفرضها المعطيات السياسية والاجتماعية، لكنه يتطلب حماية قانونية، وضمانات وطنية، ورؤية تتبنى “الحق في التنمية” بوصفه حقاً دستورياً لكل مواطن، في كل منطقة، بغض النظر عن انتمائه.
الهدف ليس تكريس الانقسام الجغرافي، بل تمكين المجتمعات من المساهمة في التنمية من داخل إطار وطني موحد. بهذا فقط، يمكن أن تكون اللامركزية رافعة لإعادة الإعمار، لا بوابة إلى تفكك الدولة.
خاتمة:
لا شك أن سوريا تقف اليوم أمام خيار تاريخي. استمرار التمسك بالمركزية قد يطيل أمد الجمود ويعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع، فيما الانتقال إلى اللامركزية دون ضوابط وطنية قد يحوّلها إلى ساحة تنازع بين الكيانات.
الحل لا يكمن في استنساخ نماذج جاهزة، بل في تطوير نموذج سوري خاص، يجمع بين مرونة اللامركزية وعدالة التوزيع، ويصيغ اقتصاداً قائماً على الكفاءة والثقة والتكامل، لا على الاحتكار والتمييز. فإما أن يكون التحول الاقتصادي مدخلاً لبناء سوريا جديدة، أو مخاطرة تُعيد إنتاج أزماتها بأشكال جديد.