في خطوة اعتُبرت الأهم في ملف إعادة تأهيل البنية التحتية السورية منذ سنوات، وقّعت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سوريا اتفاقية مع شركة “موانئ دبي العالمية” بقيمة 800 مليون دولار أميركي، وذلك خلال حفل رسمي جرى في العاصمة دمشق بحضور الرئيس أحمد الشرع. وتمثل هذه الاتفاقية تتويجاً لأشهر من المفاوضات المكثفة التي وضعت نصب أعينها هدفًا استراتيجيًا: إعادة تموضع سوريا على الخريطة الاقتصادية الإقليمية والدولية، من خلال تطوير ميناء طرطوس الحيوي وتحويله إلى بوابة للتجارة العالمية.
أكد رئيس الهيئة العامة للمنافذ، قتيبة بدوي، في كلمته خلال حفل التوقيع، أن الاتفاق يهدف إلى تأسيس شراكة اقتصادية قائمة على التوازن بين حاجات النهوض الاقتصادي ومبادئ الاستثمار المستدام، وذلك من خلال تطوير البنية التحتية لميناء طرطوس بما يتماشى مع أعلى المعايير الدولية.
وأضاف بدوي أن شركة “موانئ دبي” أظهرت خلال فترة التفاوض جدية ملحوظة في التعاطي مع خصوصية الواقع السوري، وفهمت أولويات البلاد الاقتصادية والتنموية، وهو ما تجسد في تفاصيل الاتفاق الذي خضع لتدقيق صارم على مدى شهور. وأوضح أن الاتفاق لم يُبنَ على اعتبارات فنية بحتة، بل يمثل نقطة تحوّل في البعد الجيو-اقتصادي لسوريا، من خلال خلق بيئة استثمارية جديدة تمكّن البلاد من استعادة دورها في التجارة الدولية.
تفاصيل الاتفاق:
الاتفاقية الموقعة مع “موانئ دبي العالمية” ليست وليدة اللحظة، بل تمثل امتداداً لمذكرة التفاهم التي وُقعت بين الجانبين في أيار/مايو الماضي، وتشمل تطوير وتشغيل وإدارة محطة متعددة الأغراض في ميناء طرطوس. ويُنتظر أن تؤدي هذه الخطوة إلى رفع الطاقة التشغيلية للميناء وتعزيز مكانته كمركز إقليمي للتجارة ونقل البضائع.
وتشمل الخطة أيضًا إنشاء مناطق صناعية حرة، وموانئ جافة، ومحطات لعبور البضائع في مواقع استراتيجية داخل الأراضي السورية، ما سيخلق شبكة لوجستية متكاملة تتماشى مع تطلعات البلاد في المرحلة المقبلة.
بالتزامن مع توقيع اتفاقية “موانئ دبي”، أبرمت سوريا اتفاقية استراتيجية أخرى مع الشركة الفرنسية “CMA CGM” لتطوير ميناء اللاذقية، بحضور الرئيس الشرع أيضاً. وتبلغ قيمة الاستثمار في هذا المشروع 230 مليون يورو، على مدى خمس سنوات، تبدأ بضخ 30 مليون يورو في العام الأول، يليها استثمار بقيمة 200 مليون يورو في السنوات الأربع التالية.
ويشمل المشروع الفرنسي إنشاء رصيف بحري بطول 1.5 كيلومتر وعمق 17 متراً، ما يسمح باستقبال سفن عملاقة وزيادة الطاقة الاستيعابية للميناء. وتُعد هذه الخطوة تحولاً كبيراً في إدارة وتشغيل الموانئ السورية، بعد إلغاء الحكومة السورية الجديدة العقود القديمة التي لم تعد تلبي متطلبات المرحلة الحالية.
أبعاد الاتفاق الاقتصادية والسياسية
تحمل هذه الاتفاقيات، ولا سيما الاتفاق مع “موانئ دبي”، أبعاداً اقتصادية تتجاوز مجرد تحديث بنية الموانئ. فهي تمثل محاولة سورية لإعادة دمج نفسها في النظام الاقتصادي العالمي بعد سنوات من العزلة، من خلال جذب استثمارات كبرى تؤمن فرص عمل وتزيد من قدرة البلاد على التصدير والاستيراد بكفاءة.
أما سياسياً، فيبدو أن الحضور الإماراتي والفرنسي في الموانئ السورية يعكس توجهاً دولياً نحو الانخراط في إعادة إعمار سوريا عبر بوابة الاقتصاد، بما يتيح بناء شراكات تفرض واقعاً جديداً قد يساهم في خلق توازنات إقليمية مختلفة.
خاتمة:
تمثل اتفاقية “موانئ دبي” مع سوريا خطوة أولى في مسار طويل لإعادة بناء الاقتصاد السوري من بوابة الموانئ والبنية التحتية اللوجستية. وإذا نجحت هذه المشاريع في تحقيق أهدافها، فإنها قد تفتح الباب أمام استثمارات جديدة، وتعزز فرص سوريا في استعادة دورها كمركز تجاري في شرق المتوسط. ولكن يبقى التحدي الأساسي في تنفيذ هذه الخطط بفعالية، وتوفير بيئة قانونية وإدارية تشجع على استدامة الشراكات الدولية في المستقبل.