في لحظة سورية فارقة، حيث التاريخ يعيد كتابة ذاته، شهد قصر الشعب في دمشق ولادة الهوية البصرية الجديدة للدولة السورية، لا بوصفها مجرد إعادة تصميم لشعار رسمي، بل كخطوة رمزية كبرى نحو ولادة سردية وطنية جديدة تسعى لتجاوز إرث عقود من القمع والاستبداد والتشظي، معلنةً بداية مشروع دولة معاصرة، حارسة لا مهيمنة، راعية لا مُستبدّة.
يُعد اختيار العقاب الذهبي جوهر الهوية البصرية الجديدة رسالة تتجاوز الإطار الشكلي، لتحمل في طياتها بعداً فلسفياً ووظيفياً يعكس رؤية الدولة الحديثة. فالعقاب، الحاضر في الثقافة السورية والعربية منذ قرون، لم يعد مجرّد طائر جارح يعكس سطوة الدولة وهيبتها كما درجت الأنظمة السابقة، بل أصبح تجسيدًا لدولة حارسة، تحفظ كرامة المواطن وتصون سيادته، لا تسلبه حريته ولا تختزله في شعار حزبي أو أمني.
وتتجلى هذه الفلسفة الجديدة من خلال تصميم الجناحين المنبسطين للعقاب؛ لا عدوانية فيهما ولا انكفاء، بل حالة توازن بين الحضور الحازم والاطمئنان، في استعارة بصرية تعكس دور الدولة كضامنة للأمن والعدالة، لا كوصية متسلطة على شعبها.
أحد أكثر عناصر الشعار دلالةً هو موقع النجوم الثلاثة، التي تحررت من “الترس الحديدي” الذي كانت مطمورة فيه سابقًا، لتعلو فوق العقاب نفسه، في دلالة عميقة على أن السيادة لا تنبع من السلطة بل من الشعب. هذه النجوم ترمز إلى أن القوة الفعلية للدولة مصدرها التفويض الشعبي، وأن العلاقة الجديدة بين المواطن والدولة قائمة على الشراكة، لا الخوف.
هنا تنقلب الهرمية القديمة: لم تعد الدولة فوق الشعب، بل الشعب هو من يرفع الدولة ويحرسها بإرادته الحرة، لا من خلال الانصياع القسري لأجهزتها.
يحمل جناحا العقاب في التصميم 14 ريشة، في إشارة مباشرة إلى محافظات سوريا كافة، وكأن الشعار يريد أن يذكّر أن لا مركز يعلو على الأطراف، ولا محافظة تهمّش لحساب أخرى. الوحدة الجغرافية والسياسية هنا ليست تنظيرًا، بل مبدأ بصري حاضر في كل تفاصيل الشعار.
وفي الذيل، حيث تتوازن حركة الطائر، نجد خمس ريشات تمثل المناطق الجغرافية الكبرى لسوريا، لتؤكد أن توازن البلاد ليس خياراً سياسياً بل شرط وجودها واستقرارها ونهضتها. كل ريشة تحمل جزءًا من عبء الدولة، من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، مروراً بالوسط، في خريطة رمزية لوطن لا يُختزل في مركزه ولا يُختزل فيه جزء دون آخر.
تحت العقاب تمتد مخالب مفتوحة، لا للترويع أو السيطرة، بل للتأكيد على الجاهزية الدفاعية المشروعة. إنه شعار دولة تمتلك أدوات الحماية، دون أن تكون هذه الأدوات وسيلة للإخضاع الداخلي أو التهديد الخارجي. إنها رمزية دولة ذات سيادة، لا تبحث عن حروب، لكنها مستعدة لرد العدوان.
ليست الهوية البصرية الجديدة مجرد صورة أو رسم أنيق يزيّن الأوراق الرسمية والمباني العامة، بل هي خلاصة رؤية وطنية جديدة تعيد تعريف مفهوم الدولة في المخيال الجمعي السوري. وكما أشار وزير الإعلام السوري، فإن الشعار هو نتيجة “مخاض عسير”، يحمل في طياته قطيعة نفسية وسياسية مع حقبة اختُزلت فيها الدولة في رمز حزبي أو أمني.
في هذا الشعار، ينتقل السوريون من دولة كانت تخاطبهم بالخوف والرهبة، إلى دولة تريد أن تخاطبهم بالثقة والرعاية. إنها سردية جديدة تقول: لم نعد نرسم أنفسنا بعيون الآخرين، بل بتاريخنا، بثقافتنا، برؤيتنا نحن لمستقبلنا.
أكد الرئيس السوري أحمد الشرع في كلمته خلال الاحتفال أن الهوية الجديدة ترمز إلى “قوة التصميم على بناء سوريا واحدة موحدة”، مشدداً على أن “التنوع العرقي والثقافي في سوريا هو مصدر غنى لا خلاف”. وأوضح أن الشعار الجديد لا يرمز فقط إلى التلاحم الجغرافي، بل إلى مشروع لإعادة بناء الإنسان السوري، وإعادة ترميم كرامته وثقته في وطنه.
وفي كلمة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، تم التأكيد على أن الهوية البصرية الجديدة تعكس عودة سوريا إلى المحافل الدولية بثقة. فالعلم السوري عاد ليرفرف في مقر الأمم المتحدة، حاملاً معه رمزية دولة لم تنكسر رغم كل محاولات العزل والتشويه، ودبلوماسية تعيد رسم خريطة العلاقات الدولية على أساس من الندية والاحترام المتبادل.
العقاب في سماء دمشق.. عرض مسيرات يُجسد الهوية البصرية الجديدة لسوريا
في مشهد بصري غير مسبوق، شهدت العاصمة السورية دمشق مساء الخميس عرضًا جويًا مذهلًا قُدِّم باستخدام قرابة ألف طائرة مسيّرة، احتفاءً بإشهار الهوية البصرية الجديدة للدولة السورية. وقد تميز العرض بتجسيد رموز الثورة السورية، وتاريخها، ورؤيتها المستقبلية، في رسالة رمزية قوية أكدت وحدة السوريين وتطلعاتهم نحو الحرية والكرامة.

صورة حمزة الخطيب تضيء السماء
من أبرز المشاهد المؤثرة، كانت الطائرات تشكل في السماء صورة الطفل الشهيد حمزة الخطيب، الذي اغتالته قوات النظام السوري عام 2011 في درعا، ليصبح أحد أيقونات الانتفاضة الشعبية. هذا التجسيد البصري أعاد التذكير بتضحيات السوريين، وجاء تأكيدًا على أن الثورة ما تزال حية في وجدان الشعب.
العرض الذي التقطته عدسات الناشطين ووسائل الإعلام، أبرز رمز “العقاب” كأحد عناصر الهوية البصرية الجديدة، وهو شعار يرمز إلى القوة والانعتاق من الاستبداد، والانطلاق نحو مستقبل يستند إلى الحرية والسيادة والكرامة.
كما شكلت المسيّرات مشاهد للعلم السوري (علم الثورة) وخريطة سوريا الكاملة، إلى جانب كلمات وشعارات كـ”سوريا لكل السوريين“، ولوحات جسدت أطياف المجتمع السوري من عسكريين، ومهندسين، وطلاب، في تناغم بصري عبّر عن شمولية الهوية الجامعة.
احتفال شعبي ورسمي متزامن
بالتوازي مع العرض الجوي، أعلنت الهوية البصرية رسمياً من قصر الشعب بدمشق، بحضور الرئيس أحمد الشرع، إلى جانب وزراء، ومسؤولين، وشخصيات دينية واجتماعية. واحتشد عشرات الآلاف في ساحة الجندي المجهول على سفح جبل قاسيون، في احتفالية كبرى نُظّمت برعاية حكومية وأمنية مشددة لضمان سلامة المشاركين.
لم تقتصر الاحتفالات على دمشق، بل امتدت إلى مختلف المحافظات السورية، حيث خرج آلاف السوريين إلى الساحات العامة في مدنهم وقراهم. ففي حلب، امتلأت ساحة سعد الله الجابري بالمتظاهرين، بينما شهدت ساحة الشيخ ضاهر في اللاذقية، والسبع بحرات في إدلب، وساحة العاصي في حماة، فعاليات مماثلة، جسّدت الروح الجماعية لهذا الإعلان التاريخي.
هوية بصرية.. أم مشروع وطني جديد؟
إطلاق الهوية البصرية الجديدة للدولة السورية يتجاوز كونه حدثاً إعلامياً؛ إذ يعكس مشروعاً سياسياً واجتماعياً جامعاً، يسعى إلى إعادة تعريف سوريا المستقبل، كدولة مدنية حرة، تعترف بجميع مكوناتها، وتضع الثورة وقيمها أساسًا للهوية الوطنية.
كما يشكل هذا الإعلان مناسبة للالتفاف الشعبي حول مشروع بديل واضح المعالم، يعبّر عن تطلعات السوريين بعد أكثر من عقد من الحرب والتشظي.
خاتمة: أكثر من شعار… وعد بمستقبل
الهوية البصرية الجديدة ليست مجرد شعار رسمي لدولة تتجمل، بل هي وعد بميلاد جديد لوطن يسعى إلى الخروج من رماد حرب طويلة، ليكتب فصلاً جديداً في تاريخه. إنها رؤية تنبع من الداخل، وتتغذى من تضحيات السوريين، ومن إيمانهم بأن سوريا ليست مجرد جغرافيا، بل فكرة مستمرة في الزمان.
في هذا الشعار، وفي رمزيته، وفي السردية الجديدة التي يحملها، يقول السوريون للعالم: لقد بدأنا طريق العودة… لا إلى ما كنّا عليه، بل إلى ما نستحق أن نكون.