في ظل تصاعد التوترات العسكرية بين إيران وإسرائيل، وامتداد الصراع ليشمل جبهات عدة من غزة إلى لبنان وسوريا، برز توجه إقليمي جديد يمكن وصفه بـ”محور التوازن“، يضم دولاً كبرى في المنطقة مثل تركيا، والسعودية، وقطر، ومصر، تسعى مجتمعة إلى احتواء التصعيد دون الانحياز لأي من طرفي النزاع. هذا المحور لا ينطلق من منطلقات أيديولوجية، بل من حسابات مصلحية تسعى إلى تجنيب المنطقة كوارث حرب شاملة، وتفادي ارتدادات الصراع على استقرارها الداخلي وأمنها القومي.
معالم “محور التوازن”
ظهور هذا المحور لم يكن فجائياً، بل جاء نتيجة تراكمات سياسية وأمنية شهدتها المنطقة على مدار السنوات الماضية. لكن الحرب المفتوحة التي اندلعت بين إيران وإسرائيل عام 2024، وخصوصاً بعد أن نقلت تل أبيب المعركة إلى داخل الأراضي الإيرانية في يونيو، كانت الشرارة التي جعلت هذا التكتل الإقليمي يُبلور نفسه كقوة سياسية ودبلوماسية بديلة عن الاستقطابات الحادة.
الدول الأربعة – تركيا، السعودية، قطر، ومصر – أعلنت رفضها العلني للضربات الإسرائيلية، وأرسلت رسائل دبلوماسية واضحة إلى الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترمب تدعو إلى خفض التصعيد. إلا أن هذه المواقف لا تعني بأي حال من الأحوال تقارباً مع طهران، التي كانت ولا تزال مصدر قلق إقليمي عابر للحدود، بل تعكس رغبة في بناء حالة وسطية تتصدى للفوضى وتعيد هندسة ميزان القوى بعيداً عن سياسة المحاور التقليدية.
إيران.. من الفاعل الإقليمي إلى عبء جيوسياسي
لقد ساهمت إيران لعقود في تصعيد الأزمات الإقليمية، بدءاً من دعم الحوثيين في اليمن وتهديد أمن الخليج، مروراً بتسليح الميليشيات العراقية، ووصولاً إلى لعب أدوار مزدوجة في سوريا ولبنان عبر وكلاء محليين. كما لم تتردد طهران في استخدام الصراع مع إسرائيل كذريعة للتغلغل العسكري والأمني، متسببة بخلق بيئة إقليمية غير مستقرة عمقت من عزلة المنطقة اقتصادياً وسياسياً، خاصة مع تعطيل الملاحة في البحر الأحمر وتأثير ذلك على قناة السويس ومصر.
إلا أن عام 2024 شهد بداية أفول النفوذ الإيراني، خاصة بعد مقتل معظم قيادات “حزب الله” وتراجع الدعم الروسي لنظام الأسد البائد بسبب الحرب الأوكرانية، ما فتح الباب لتغيرات جذرية على خارطة التحالفات في المشرق العربي.
سوريا.. من ساحة صراع إلى نقطة اتزان
السؤال المحوري الذي يفرض نفسه اليوم: أين تقف سوريا في ظل هذا التحول الإقليمي الحاد؟ بعد سقوط نظام الأسد وتولي الإدارة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بدت سوريا أقرب إلى التموضع ضمن “محور التوازن الإقليمي”، مدفوعة برغبة داخلية في النأي بالنفس عن الصراعات الإقليمية، وبعد تجربة مريرة دامت أكثر من عقد من الهيمنة الإيرانية.
التحالفات الجديدة لسوريا مع تركيا والسعودية عززت من هذا الاتجاه، خاصة في ظل التحرك الدبلوماسي الفاعل لهاتين الدولتين لرفع العقوبات عنها وإعادة إدماجها إقليمياً. كما كشفت تقارير غربية أن أنقرة نصحت القيادة السورية الجديدة بالبقاء على الحياد تجاه الصراع الإيراني-الإسرائيلي، وهو ما ظهر جلياً في الموقف السوري المتزن من التصعيد الأخير.
رغم هذا الحياد السياسي الظاهر، لا تزال سوريا تعاني من ضغط أمني متصاعد من الجانب الإسرائيلي، خصوصاً في الجنوب السوري، حيث كثفت تل أبيب عملياتها العسكرية بهدف خلق منطقة عازلة تؤمن حدودها من دون الحاجة لاتفاقات سلام مباشرة. هذا الواقع يفرض معادلة صعبة على دمشق، فهي من جهة لا تملك القدرة العسكرية الكافية للرد على الانتهاكات، ومن جهة أخرى لا ترغب بتحول أراضيها إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية.
وفي هذا السياق، يبرز دور السعودية وتركيا كقوتين سياسيتين يمكن لسوريا التعويل عليهما لإحداث توازن سياسي وضمانات أمنية، قد تشمل الضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها، وإن كانت هذه الرهانات لا تزال قيد الاختبار في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي وغياب توازن الردع العسكري.
خاتمة:
في ضوء هذا المشهد، تبدو سوريا أمام مفترق طرق حاسم: إما أن تواصل التموضع ضمن “محور التوازن”، مع ما يتطلبه ذلك من ضبط داخلي صارم، وسياسة خارجية مرنة، وتحالفات دبلوماسية متزنة، أو أن تنجرف مجدداً إلى ساحة الصراع الإقليمي نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة أو محاولات إيران للعودة عبر بوابات أخرى.
لكن واقع ما بعد 2024، وانكفاء إيران، وسقوط نظام الأسد، وتغير البيئة الجيوسياسية، تمنح سوريا للمرة الأولى منذ سنوات فرصة حقيقية لإعادة صياغة موقعها في النظام الإقليمي، لا كمجرد تابع لهذا المحور أو ذاك، بل كدولة فاعلة تسعى لتحقيق سيادتها، واستقرارها، ودورها المتوازن في عالم عربي يبتعد شيئاً فشيئاً عن سياسة المحاور الصفرية.