في منعطف تاريخي تمر به سوريا، وبعد أكثر من عقد من الحرب التي ألقت بظلالها على مؤسسات الدولة والمجتمع، يعود التعليم إلى الواجهة بوصفه حجر الأساس في عملية إعادة بناء الإنسان السوري. وفي هذا السياق، تبنّت الحكومة السورية، بقيادة رئيس الجمهورية السيد أحمد الشرع، رؤية جديدة للتعليم، تتجاوز التلقين والأدلجة نحو بناء عقل نقدي، منتج ومواكب للتحولات العالمية، وذلك من خلال خطة شاملة تقودها وزارة التربية بدعم رئاسي مباشر.
من التلقين إلى المهارات: مرحلة جديدة في التعليم السوري
لقد أدركت الحكومة السورية أن إعادة بناء البلاد لا تبدأ من البنى التحتية، بل من المدارس، والمناهج، والمعلمين، والطلاب. ولهذا عقد الرئيس أحمد الشرع اجتماعًا موسعًا مع وزير التربية السيد محمد تركو لمناقشة سبل تحديث المنظومة التعليمية، حيث تم التأكيد على ضرورة الارتقاء بجودة التعليم، وتحديث المناهج بما يواكب تطلعات السوريين في مرحلة ما بعد الحرب.
وفي هذا السياق، أوضح مدير المناهج في وزارة التربية، الأستاذ حسين القاسم، أن الوزارة تعمل على إعداد معايير شاملة لجودة التعليم تشمل عدة محاور جوهرية:
التحول من التعليم القائم على الحفظ إلى تنمية المهارات والكفاءات.
دمج التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتعليم الأخضر ضمن المنظومة التعليمية.
صياغة مناهج تعكس القيم السورية بانفتاح مدروس على الثقافات العالمية.
تعزيز الأنشطة الصفية واللاصفية لبناء شخصية الطالب القادر على التفكير النقدي وحل المشكلات.
فرض رقابة صارمة على المدارس الخاصة لضمان التزامها بالمناهج الوطنية.
نحو مناهج أكثر تفاعلاً وتحليلاً
بدأ المركز الوطني لتطوير المناهج عملية تحليل دقيقة للمناهج الحالية عبر أدوات تقييم حديثة، أبرزها استمارات لقياس مدى توافق الأهداف التعليمية مع تطلعات المرحلة، وبطاقات تحليل المحتوى التي تحدد نقاط الضعف، وتقترح تعديلات جوهرية من خلال لجان تربوية متخصصة.
ويتم العمل على إدخال مفاهيم مثل الذكاء الاصطناعي، الروبوتيك، والتعليم التفاعلي ضمن الكتب الجديدة، بما يمهد لنقلة نوعية في أساليب التعلم. وقد تم بالفعل تجريب منصات تعليم رقمية في عدد من المحافظات، ما يشير إلى تحول رقمي تدريجي وممنهج نحو تعليم عصري.
الكوادر التربوية: أساس الإصلاح الحقيقي
يرى مدير التعليم في وزارة التربية، الأستاذ محمد سائد قدور، أن الكادر البشري هو التحدي الأكبر. فالمدرّس الذي يُفترض أن يكون محور العملية التربوية يعاني من أوضاع اقتصادية صعبة، وترهّل إداري ناتج عن سوء توزيع الموارد البشرية، وتعيينات لا تستند إلى الكفاءة بل إلى الولاءات.
وأكد قدور أهمية تحسين أوضاع المعلمين وتغيير معايير اختيار المديرين، وإطلاق ورشات لتعويض الفاقد العلمي لدى الطلاب، وتفعيل منصات رقمية لمواجهة نقص الكوادر. كما اقترح اعتماد أنشطة مدرسية مدرّة للدخل للمساهمة في تحسين أوضاع المعلمين دون الحاجة لتمويل خارجي.
البنية التحتية… مأساة لا تُخفى
إحدى أبرز التحديات التي ما زالت قائمة هي البنية التحتية المتضررة بشدة، حيث إن آلاف المدارس دُمّرت أو تضرّرت جزئيًا خلال سنوات الحرب، ما أدى إلى اكتظاظ كبير في المدارس المتبقية، وضعف في الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وتجهيزات صفية.
ورغم ذلك، هناك جهود تبذل لإعادة ترميم المدارس وإعادة تأهيلها، سواء عبر برامج وطنية أو بمساعدة بعض المنظمات، ما يعكس إصرارًا على إنقاذ ما تبقى من التعليم، والنهوض به كأحد أركان مشروع إعادة الإعمار الأوسع.
ما يظهر اليوم من توجهات رسمية يشير إلى إدراك عميق بأهمية التعليم ليس كخدمة اجتماعية فقط، بل كمشروع وطني شامل لبناء الإنسان السوري الجديد، الإنسان القادر على التفكير، الإنتاج، والانخراط الفعال في مجتمعه. ومن هنا، فإن خطة إصلاح التعليم تمثل ركيزة أساسية في معادلة الاستقرار والتنمية، وبداية ضرورية لأي حديث جاد عن سوريا المستقبل.
دور الأسرة والمجتمع في دعم التحول التربوي
لا يمكن لأي إصلاح تعليمي أن يحقق أهدافه ما لم يكن محاطاً بدعم مجتمعي حقيقي، تبدأ نواته من الأسرة. فالتعليم ليس فقط مسؤولية المدارس والمؤسسات الحكومية، بل هو مسؤولية تشاركية، تتوزع بين الدولة والأسرة والمجتمع المحلي.
إن التغييرات التي تستهدف بناء جيل مفكر ومبدع تتطلب تغييراً في أنماط التنشئة داخل البيوت، وتشجيعاً على الحوار، والتفكير النقدي، والابتعاد عن العنف التربوي وأساليب التلقين التي ترسخت لعقود. وفي هذا الإطار، دعت وزارة التربية إلى إطلاق برامج توعية للأهالي حول أهمية دورهم في مرافقة عملية الإصلاح، وخاصة فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيا، وتنظيم أوقات الدراسة، وتعزيز السلوك الإيجابي لدى الأطفال.
كما يُنتظر من المجتمع المدني، بمؤسساته ومنظماته، أن يشارك بفعالية في توفير بيئات تعليمية داعمة، سواء من خلال مبادرات الدعم النفسي للطلاب في المناطق المتضررة، أو المساهمة في إعادة تأهيل المدارس، أو تقديم الدعم اللوجستي والتقني لمشاريع الرقمنة.
إن بناء تعليم متين لا يكتمل من دون مجتمع يؤمن بقيمة المعرفة، وأسرة ترى في المدرسة شريكاً لا خصماً، وفي التغيير التربوي فرصة لا تهديداً. من هنا، تبرز الحاجة إلى ترسيخ ثقافة تعليمية جديدة، تعيد للتعليم السوري مكانته ودوره في بناء الوطن والمواطن.
خاتمة
إن التعليم في سوريا اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم، بين واقع مثقل بسنوات الحرب والتراجع، ومستقبل يُبنى بإرادة الإصلاح والدعم الرئاسي المباشر. فالخطط الشاملة التي تقودها وزارة التربية، بما في ذلك تحديث المناهج، والانتقال إلى التعليم الرقمي، وتحسين واقع الكوادر التعليمية، ليست مجرد خطوات تقنية، بل مشروع وطني لإعادة تشكيل الوعي السوري وبناء الإنسان القادر على النهوض بوطنه.
ورغم حجم التحديات البنيوية والإدارية، فإن الإصرار على التغيير، والانفتاح على التجارب العالمية دون التفريط بالهوية الوطنية، يعكس رؤية مستقبلية تعيد للتعليم موقعه الريادي. وبدعم الأسرة والمجتمع المدني، يمكن تحويل هذه الاستراتيجيات إلى واقع ملموس، يزرع الأمل في نفوس الأجيال ويؤسس لمرحلة سورية جديدة، قوامها العلم، والتفكير، والانتماء.