مقدمة
في لحظة تاريخية حاسمة، عاشت سوريا إحدى أعظم محطات نضالها، حين انتفض أبناؤها ضد عقود من القهر والاستبداد، مطالبين بالحرية والكرامة وبناء دولة لكل مواطنيها. ومع أن سقوط النظام لم يكن سوى الخطوة الأولى، إلا أن المهمة الأصعب والأكثر تعقيداً لا تزال قائمة: مهمة بناء الدولة الحديثة العادلة، القادرة على تجاوز إرث الاستبداد، وصياغة مستقبل مشترك يحفظ كرامة الإنسان السوري ويصون حقوقه.
الثورة.. بداية الطريق لا نهايته
في الوعي الجمعي للمجتمعات الحية، لا تُختزل الثورات في إسقاط أنظمة القمع وحسب، بل تبدأ حقيقتها لحظة سقوط الطغيان. فالثورة ليست نهاية معركة، بل بداية مشروع وطني طويل الأمد، يحتاج إلى صبر، وتخطيط، وحكمة، وقدرة على إدارة الانتقال السياسي والاجتماعي.
ومن هنا، فإن أصعب ما تواجهه الشعوب بعد انتصار ثوراتها هو التحول من لحظة الغضب إلى لحظة البناء، ومن ثقافة المعارضة إلى ثقافة الدولة.
منطق المحاسبة السياسية.. وضرورات الواقعية
مؤخرًا، أثار أحد الوزراء في الحكومة الانتقالية حالة من الجدل حين اجتمع بشخصية محسوبة على النظام السابق. وبينما رأى البعض في هذا التصرف خطأ يستوجب الإقالة أو الإقصاء الفوري، يدعونا الموقف ذاته للتساؤل:
هل نُقصي رجلًا من أول زلة؟ هل نعدم الاجتهاد من أول العثرات؟ وهل يجوز أن نؤسس دولة على منطق التصفية بدل منطق البناء؟
إن الدول لا تُدار بالعصمة، ولا يُبنى الحكم على المثاليات النظرية المطلقة. بل يحتاج القادة الحقيقيون إلى مساحة للاجتهاد، وإمكانية الخطأ، وفرصة الاعتراف بالخطأ، وتصحيحه علناً.
والوزير ذاته لم يتنصل، بل أقر بأن ما جرى يستدعي المراجعة. أليس هذا ما كنا نطالب به لعقود؟ قيادات تتحمل مسؤولياتها بدل أن تختبئ خلف الشعارات والأعذار؟
الدولة الحديثة لا تبنى بالصراخ والتصفية
في اللحظة التي تُبنى فيها مؤسسات الدولة من الصفر، تتطلب الحكمة منا أن نُفرّق بين الخطأ المتعمد والخطأ الناتج عن الاجتهاد.
فإذا أسقطنا حكومة عند كل عثرة، واستبدلنا الوزراء كل أسبوع، وتصارعنا يوميًا على السلطة بدعوى النزاهة المطلقة، فلن نُنتج سوى فراغ سياسي وارتباك إداري.
النزاهة مطلوبة، بل هي حجر الزاوية في أي دولة محترمة، لكن النضج السياسي والواقعية لا يقلان أهمية.
فبناء الدولة لا يتم بالصدامات اليومية والتجريح الإعلامي، بل بإفساح المجال للتجربة، وتراكم الخبرات، وتقويم الأداء بالنقد المسؤول لا الهجاء الغوغائي.
لا نريد أن نُعيد إنتاج الطغيان باسم الثورة
من أخطر ما قد يُصيب مسارات الانتقال السياسي أن يتحول معارضو الأمس إلى طغاة جدد، يرفعون سيف الإقصاء على كل من يختلف معهم أو يجتهد في غير ما يشتهون.
والتاريخ علّمنا أن الكثير من الثورات انحرفت عن مسارها بسبب ثقافة التخوين، والتصفية، والمثالية الحالمة التي لا تنسجم مع تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي.
فلنتّعظ.
دعونا لا نكرر أخطاء الطغاة ونحن نحمل راية الحرية، فلا معنى لثورة تنتج نسخة أخرى من الاستبداد، حتى لو اختلفت الشعارات.
بين حق الشعب وواجب الدولة
من حق الشعب أن يُراقب و يسائل ويحاسب. ومن واجب الحكومة الانتقالية أن تلتزم بمبادئ الشفافية والمحاسبة.
لكن من واجبنا كمجتمع وطني مسؤول أن نمنح من يتصدرون المشهد فرصة ليتعلموا، ويخدموا، ويصقلوا تجاربهم في حضن هذه الدولة الوليدة.
إن الوطن لا يُبنى بالمثالية الحالمة وحدها، بل بالعقل، والعمل، والتجربة، والرحمة.
فلنصبر قليلاً.
ولنتذكر أن المؤسسات لا تنشأ كاملة منذ اليوم الأول، وأن القيادة الحقيقية تتشكل في لحظات الأزمات، لا في لحظات الكمال النظري.
خاتمة
إن سوريا الجديدة التي ننشدها، لن تُبنى بعقلية الانتقام والتصفية، ولا بثقافة التصنيف والإقصاء. بل سنبنيها جميعًا — من كل التيارات والمكونات — على أساس المواطنة المتساوية، والحرية، والعدالة، وحق الجميع في الخطأ والتصحيح.
فالثورات لا تنتصر لحظة سقوط الطغيان، بل تنتصر حين تنجح في تأسيس دولة عادلة، عاقلة، راشدة… قادرة على صيانة مكتسبات الحرية، وحماية كرامة الإنسان السوري.