يبدو العنوان متنافرا ومستفزا , هل يمكن أن يلتقي المثقف والسياسي سواء على مستوى الجماعات أو الأفراد أو على مستوى الشخص ذاته.
هل الثقافة والسياسة نقيضان أم ضدان هل هما متضايفان أم متكاملان.
اذا كانت احدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة التي تحد من الفكر الإنساني والاتصال الفكري, واحدى أدوات السياسة هي الأيديولوجيات وبناء الحواجز بين الأفراد والجماعات , واذا كان المثقف هو الشخص الذي لا يمكن التنبؤ بسلوكه أو اخضاعه لشعار او خط حزبي, فكيف يلتقيان؟
المثقف كمنفي وهامشي وهاو يحاول خلق لغة تقول الحق في مواجهة السلطة ,- كل سلطة – وكل ما يطلب منه أن يبقى أمينا لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد.
المثقف وإذ يراقب الحالة العامة التي يرثى لها ,ومن خارج السلطة مراقبة تتطلب منه معرفة واسعة لاتكل تبحث وتنقب, وتقدم حلولا وبدائل. يشعر بوحشة وغربة قاسية لكنها أفضل من مسايرة القطيع.
يعرف جوليان باندا المثقفون بانهم الملوك الفلاسفة, هم ضمير البشرية , مواهب استثنائية وحس أخلاقي ,كائن فصل عن الآخرين, قادر على قول الحق, شجاع وقاس.
غرامشي يرى الجميع مثقفين وهم: اما تقليديون ( معلمون – اداريون …) أو عضويون , وكل من يعمل في حقل له علاقة بالانتاج المعرفي فهو مثقف.
هم أشخاص عندهم حساسية غير معتادة تجاه المقدسات , وتبصر غير مألوف في طبيعة عالمهم وفي القواعد التي تحكم مجتمعهم . ودائما هناك أقلية تفوق العامة من البشر من حيث استعلامهم عن ورغبتهم في اقامة صلة حميمية مع رموز أبعد وأعم من الأوضاع المادية والفورية للحياة, وعند هؤلاء تبرز حاجة الى تجسيد هذا السعي في خطاب شفوي أو مدون شعري أو تشكيلي , موسيقى أو مسرح ,صلاة أو غناء.
المثقف منفي ومغترب
هو شخص منفي دائما خارجيا وداخليا خارجيا لأن الناس تفضل من يبرر لها أوضاعها ونحن نرفض من يعري حقائقنا وذواتنا وضعفنا.
انسانيتنا مسؤولية كبيرة وتحدي وجودي, نفضل الهرب من مواجهته على المستوى الجماعي أو الشخصي ولذا فالمثقف مغترب حتى عن ذاته.
المنفى هو النموذج الذي يجب أن يضعه المثقف نصب عينيه عندما تغويه مكافآت التكيف والامعية والركون ,صيرورة المثقف هامشيا كمن هو في منفى, يتطلب منه أن يستجيب للمسافر لا الحاكم , للمؤقت والمحفوف بالمخاطر لا للمألوف ,للابتكار لا الوضع الراهن , للمغامرة والمضي قدما لا الركود والجمود.
الخطر الكبير الذي يواجه المثقف هو الاحترافية –اعتبار الثقافة كمصدر للرزق- وتواجه بالهواية أي الشغف . المحترف يدعي حقه باللامبالاة بحجة الموضوعية ,الهاوي يرتبط بميثاق مع مبادئ وأفكار في المجال العام.
المثقف كائن قلق:
المثقف لا يسكن الطمأنينة، ولا يقيم في الأجوبة، بل يعيش في الأسئلة المتجددة، وفي التوتر الخلّاق بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. قلقه ليس عرضًا طارئًا، بل جوهر وجوده؛ قلق وجودي يتغذى من حساسية مفرطة تجاه التناقضات، ومن توق دائم لفهم الذات والعالم، ومن شعور داخلي عميق بأن كل حقيقة قابلة للمراجعة، وأن كل يقين مؤقت.
هو لا يطمئن إلى ما استراح إليه الآخرون، فـ”الاعتياد” و”القبول” بالنسبة له، أدوات قتل ناعمة، تدفن الحيوية وتحجب الرؤية
قلقه ليس مرضًا، بل هو علامة الحياة فيه؛ هو القلق الذي يجعل منه كائنًا أكثر حياة من سواه، لأنه يرى ما لا يراه الآخرون، ويشعر بما يتجاهله كثيرون، ويعاني من إدراكه العميق لتشظي العالم من حوله.
هذا القلق هو الذي يحميه من الانصهار في الجماعة، ويمنعه من الاستسلام لإغراءات الاستقرار والامتثال. هو القلق الذي يدفعه لأن يتقدم خطوة خارج المألوف، وأن يُضيء المناطق المعتمة، لا ليشعر بالأمان، بل ليُبقي جذوة الوعي متقدة، ويمنح الإنسانية فرصة لمراجعة نفسها.
المثقف مرهف:
المثقف الحقيقي ليس فقط عقلًا يفكك، بل روحٌ تلتقط ما لا يُرى ولا يُقال. قلبه جهاز استقبال بالغ الحساسية، يُحسن الإنصات إلى أصغر الآهات والأنّات، إلى ما بين الكلمات، إلى الأنين الكامن خلف الصمت، والقلق المختبئ خلف الابتسامات.
هو كائن يرى الجمال حيث يعجز الآخرون عن رؤيته، يلتقط المعنى في الأشياء المهملة،. إنه جزء من روح العالم، لا من جسده، لكنه لا يعيش في العزلة، بل في حركة مستمرة بين الروح والجسد، يسافر بين الفكرة والانفعال، بين الحلم والواقع، يسعى لإضفاء المعنى على الوجود، ولمواجهة العبثية فيه بكل ما يملك من خيال ووعي وكلمة.
إن رهافة المثقف ليست ضعفًا، بل هي سلاحه الأخلاقي، قدرته على الإحساس العميق، والتقاط اهتزازات الألم والظلم والجمال قبل أن تتحول إلى ظواهر صاخبة. ومن هذه الرهافة يولد إبداعه، وتتشكل مسؤوليته تجاه العالم: لا أن يكتفي بوصفه، بل أن يُسهِم في إعادة تشكيله على ضوء المعنى، والكرامة، والحقيقة.
المثقف والسياسة:
السياسة فن الممكن والمتاح ,والثقافة تسعى الى جعل المستحيل ممكنا والمحتمل واقعا تمد ساحة المتاح وتوسعها.
تهتم السياسة بادارة المصالح وتبادل المنافع ,بالتنظيم , بالضبط الاجتماعي . المثقف يهتم بادارة التعاطف وتبادل المحبة ينشد الحرية وكسر القيود.
ترانا السياسة مخلوقات ناجزة مكتملة تعيش على الأرض , تسيطر عليها وتستثمرها ,تنظم الاستثمار وتوزع الحصص
المثقف يرانا كائنات تسعى الى انسانيتها , والانسان مشروعا غير مكتمل وهدفا نسعى اليه , مخلوقات نعيش مع أمنا الأرض لا عليها.
وبعد هذا هل من التقاء بين الثقافي والسياسي؟
لا يجوز ان تبقى على الشاطئ وتقيس حرارة وملوحة الماء كل فترة , بل انخرط وارتبط عاطفيا , جازف وغامر. اسع للكشف والتزم المبادئ انك تدخل الحياة السياسية لحظة كتابتك مقالا ونشره في مجتمع ما.
السياسة بوصفها نشاطا إنسانيا منتج انساني ويستهدف الانسان , بوصفها هذا هي في صلب اهتمام المثقف والسياسة تستخدم ذات المقولات والمفاهيم التي ينتجها المثقفون وتحولها الى محددات وموجهات للسلوك السياسي والاجتماعي ولكن هذه المفاهيم تبقى منتج ثقافي يتحمل المثقف مسؤولية متابعتها وقد أصبحت فواعل سياسية واجتماعية فالمثقف يعزز في السياسة بعدها الإنساني والأخلاقي , يرسم مسارات تعزز انبثاث الروح في السلطة والمجتمع, يحفز الرقي الاجتماعي والمسؤولية التكاملية.
يشكل :
- كاشفا قيميا في مجالات ( الحق – الخير – الجمال )ويقسر سلوكياتنا وتحيزاتنا وأفكارنا للالتزام بهذه المعايير قدر الإمكان
- كاشفا معرفيا عن الحقيقة وعن حقائقنا الجزئية (صدقها وكذبها – نفعيتها – اطلاقها )
- كاشفا وجوديا عن المعنى في الوجود أو عبثه وكيف نضفي القيمة على هذا الوجود , كيف نمتلكه بالعقل وبالروح ,كيف يكون وجودا متصلا مع الآخر ومع الطبيعة ,وجودا راسخا قويا لا وجودا قلقا هشا ومعزولا.
هل نريد مثقفين معزولين ؟ كائنات شبحية تتخاطب بلغة غير مفهومة وغريبة ؟ أم نريد فاعلين اجتماعيا وقيميا وسياسيا؟
هل على المثقف أن ينحاز الى ساحة السلطة والسياسة أم الى ساحة المجتمع ؟ أم يعزز الانسان في الاثنين ويجد ساحة مشتركة يرعاها ويرتقي بها.
ما لذي على السلطة والسياسة عمله؟
اعتبار وجود المثقف الحر ضرورة سياسية واجتماعية وليس تفضلا أو قرارا.
يجب أن يكون المثقف ضميرها الشغوف لا تابعها المحترف الموظف.
المثقف لا ينازع السياسة فلكل ساحة عمله وأهدافه القريبة المختلفة , السلطة ليست ضمن طموحات المثقف.
تعليقات 1