تمهيد:
لطالما كانت العلاقة بين المثقف والسياسة علاقةً ملتبسة، تتأرجح بين التواطؤ والصدام، بين الغواية والممانعة، بين الانخراط والحذر. فالمثقف يحمل في داخله حساً أخلاقياً يرفض القوالب الجاهزة والمصالح الضيقة، بينما تتحرك السياسة في فضاء الممكن والمتاح، وتُدار بمنطق التوازنات والحسابات. لهذا كثيراً ما بدا المثقف كائناً غريباً عن الفعل السياسي المباشر، لكنه في الوقت ذاته لم يكن يومًا بعيداً عن تأثيره أو مسؤولياته.
المثقف هو ضمير مجتمعه، لا فقط ناقد سلطاته، وهو حين يكتب أو يفكّر أو يطرح أسئلته الحرجة، إنما ينخرط – بطريقته – في الفعل السياسي، حتى وإن لم يَسعَ لسلطة أو منصب. لكن هذا الانخراط لا يخلو من التحديات، خاصة في السياقات التي تشهد تحولات كبرى، حيث يُطلب من المثقف أن يتجاوز الحياد المريح، وأن يحدد موقفًا واضحاً دون أن يفقد استقلاله، وأن يساهم في صياغة المصير المشترك دون أن يُبتلع داخل السلطة.
ولعل التجربة السورية في العقد الأخير قدمت نموذجاً صارخاً لهذا الصراع، حيث وُضع المثقف السوري أمام تحديين مفصليين واختباريْن حاسمين:
أولًا: الثورة السورية – سؤال الانحياز والموقف
عندما انطلقت الثورة السورية في 2011، لم تكن مجرد حدث سياسي، بل زلزالاً أخلاقياً وإنسانياً. وجدت النخب الثقافية نفسها أمام لحظة اختبار عميقة: هل تنحاز إلى صوت الناس الباحثين عن الحرية والكرامة، أم تتوجس من عفوية الشارع وغلبة الخطابات الدينية؟ هل تدعم الثورة رغم غموض مآلاتها، أم تنكفئ خوفًا على “الدولة” أو دفاعاً عن “الاستقرار”؟
فاتخذ المثقفون (في غالبيتهم) مواقف متباينة، يمكن تصنيفها إلى ثلاث اتجاهات رئيسية:
الأول: من وقف إلى جانب السلطة الرافضة للثورة، إما التزامًا أيديولوجياً بتعريفات تقليدية للثورة، أو خوفًا من صعود التيارات الدينية، أو ازدراءً للحامل الشعبي واعتباره جماهير غوغائية لا يُعوَّل عليها. وبعض هؤلاء ارتبطوا بمصالح مباشرة، فكان انحيازهم للسلطة امتدادًا لامتيازاتهم.
الثاني: من انحاز إلى جانب الثورة والشعب، لكنه مارس المحاباة والتلفيق، محاولاً إرضاء الجمهور وتحشيده بأي ثمن، ولو على حساب الحقيقة والمعقولية السياسية.
الثالث: من انسحب إلى قوقعته، متذرعاً بمبررات فلسفية أو نفسية، لكنها تنتهي في جوهرها إلى نرجسية مبطّنة، وتبرير للهروب من مسؤولية المثقف. ومنهم من انتظر حتى تنجلي الصورة ليقف مع الطرف الأقوى – وهو النوع الذي بشّره دانتي بأسوأ مكان في الجحيم.
لكن، أما كان من الممكن اجتراح موقف إبداعي آخر؟
موقف يُعيد للمثقف وظيفته التاريخية كصاحب رؤية جامعة لا اصطفافية؟
موقف يخرج من ثنائية السلطة والمعارضة، ومن فخاخ التحيّزات العمياء، ليطرح ثالثًا يُقيم على أرضية القيم لا الولاءات، ويعمل على بلورة خطاب يُلهم ولا يُقصي، يشرح ولا يُبرر، يفتح لا يغلق؟
نعم، كان ولا يزال ممكناً.
ففي كل لحظة اضطراب أو تحول، هناك فرصة أمام المثقف ليعيد وصل ما انقطع بين الفكرة والممارسة، بين الإنسان ومحيطه، بين الحقيقة والموقف.
كان يمكن للمثقف أن يكون ذلك الصوت الذي لا يصطف، ولكن لا يقف على الحياد أيضاً. أن يكون ذلك الجسر لا الجدار، أن يخلق ساحة عمل مشترك تُبنى على أساس المبادئ الكبرى: العدالة، الكرامة، الحرية، المسؤولية المشتركة.
المثقف، لو تخلّى عن رغبته في التفوّق النخبوي، أو تخوّفه من الانخراط، لكان قادراً على أن يُشكّل منتدى وطنياً ثقافياً مستقلاً، يُعيد توجيه بوصلة الصراع، وينزع عنه صبغته الطائفية أو الأيديولوجية. كان يمكنه أن يطرح خطاباً بديلًا يجمع لا يفرّق، يقف مع الشعب دون أن ينجر خلف أسوأ ما في مزاجه العام، ويقف ضد السلطة دون أن يسقط في رد الفعل أو الإلغاء.
الموقف الإبداعي المطلوب ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة تاريخية، لأن الثورة ليست مجرد فعل احتجاجي، بل مشروع تحوّل، والمثقف هو من يمتلك الأدوات الأخلاقية والرمزية لإعادة تعريف هذا التحول باتجاه إنساني جامع.
واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تبقى هذه الإمكانية قائمة – لا كتوصية مجردة – بل كدعوة عاجلة لإعادة بناء الحقل العام على أساس التقاطعات لا الانقسامات، وعلى قاعدة احترام التعدد ضمن أفق وطني جامع، تكون فيه القيم هي اللغة المشتركة، لا الهويات المغلقة.
ثانياً: الحكومة الانتقالية – سؤال البناء والمراقبة
اليوم، في ظل ولادة حكومة انتقالية جديدة تحاول ترميم ما دمّرته سنوات الاستبداد والحرب، يظهر اختبار آخر لا يقل تعقيداً: هل يظل المثقف على الهامش ناقداً؟ أم يدخل ساحة المساهمة البناءة في لحظة التأسيس؟
ليست الحكومة الانتقالية نظامًا نهائياً، بل فرصة تاريخية لفتح أفق جديد في إدارة المجتمع والدولة، وهنا يُطلب من المثقف أن يكون شريكًا في إعادة بناء المعنى لا فقط مراقباً له. دوره ليس في التهليل، ولا في التثبيط، بل في ترسيخ معايير الحكم الرشيد، وإنضاج خطاب وطني جامع، والتصدي لمحاولات إعادة إنتاج الهيمنة والاستبداد بأقنعة جديدة.
إن المثقف في هذه اللحظة مطالب بالجمع بين حساسيته النقدية ومسؤوليته العامة، وأن يعمل كجسر بين المبادئ والواقع، بين الآمال والطموحات، دون أن يتنازل عن دوره كحارس للقيم الكبرى: الحرية، العدالة، الكرامة، وحق الإنسان في أن يُرى كفرد لا كأداة.
إن المطلوب اليوم، مع ولادة حكومة الشرع الانتقالية، ليس تكرار الأخطاء أو المواقف الرمادية، بل الانخراط الواعي والناقد في لحظة تأسيسية نادرة.
إن الحكومة الانتقالية لا تحتاج إلى أبواق ولا إلى معارضين انتقائيين، بل إلى مثقفين أحرار يمارسون دورهم كضمير يقظ لهذه اللحظة. وكمساهمين في بناء مسار أخلاقي ومؤسساتي راسخ للحكم الرشيد.
على المثقف أن يكون في صف القيم لا الأشخاص، أن يراقب السلطة الجديدة لا من موقع العداء، بل من موقع الرغبة في إنجاح التجربة الانتقالية، شرط ألا تُفرّط في مبادئ الثورة: الحرية، الكرامة، العدالة.
ثالثا : المثقف كضمير يقظ: مهامه الممكنة في زمن التحوّل
هل كان هذا كل ما في جعبة المثقف السوري؟
هل كانت الخيارات محصورة بين التواطؤ، أو التزييف، أو الهروب؟
ألم يكن من الممكن الخروج من هذه الزوايا الضيقة نحو أفق أوسع، يُعيد تعريف دور المثقف كفاعل مستقل لا تابع، كصوت أخلاقي لا صدى أيديولوجي؟
تبدو إجابة هذه التساؤلات ماثلة في اضطلاع المثقف بمهام تنبع من صميم طبيعته الأخلاقية والإنسانية الحرة، والتي لا تُختزل في التنظير، بل تتجلى في أفعال ملموسة تمس وجدان المجتمع وتعيد تشكيل وعيه الجمعي.
هذه المهام تتلخص في ما يلي:
- ممارسة سلطته الأخلاقية لتوجيه العواطف الجمعية، وضبط الانفعالات الطائفية والقومية والطبقية، خصوصًا في لحظات التحول والانقسام.
- بناء خطاب عقلاني جامع، قادر على إيصال رؤية متماسكة لجمهور متنوع الخلفيات، واحتضان الفئات المهمّشة أو المسكوت عنها.
- نقد نزعة “المنتصر” إذا تسللت إلى خطاب أو ممارسة الحكومة الانتقالية، وتنبيهها إلى خطر إعادة إنتاج الاستبداد بأدوات جديدة.
- التأكيد على أن الجماعة ليست كياناً فطرياً أو مقدساً، بل نتاج تاريخ طويل من التحولات والصراعات، يمكن مساءلته وتفكيكه.
- مقاومة الفهم الأحادي، وفضح الأساطير السياسية التي تُستخدم لإعادة شرعنة الإقصاء والهيمنة.
- التذكير الدائم بأن الثورة لم تكن لتحلّ “الشرطي الغريب” بـ”شرطي يشبهنا”، بل كانت بحثًا عن نظام إنساني يعامل الناس كأفراد أحرار، لا كأدوات في معادلة السلطة.
- ربط المأساة السورية بالألم الإنساني الأشمل، وتوسيع أفق الوعي الوطني ليحتضن معاناة الآخرين ويقارنها بمعاناة الذات، بما يُعيد للإنسانية معناها الكوني.
أخيرا:
إن مهمة المثقف اليوم هي أن يكون الذاكرة الأخلاقية الحية للثورة، والحارس اليقظ للمستقبل الذي تحاول حكومة الشرع الانتقالية أن تؤسسه. لا مكان للحياد في لحظة التحول، ولا قيمة للغضب العقيم أو التملق العابر.
نحن بحاجة إلى مثقف فاعل، ناقد، شجاع، لا ينتظر اللحظة المثالية ليظهر، بل يُساهم في صنعها، ويُصرّ على أن تكون سوريا الجديدة وطنًا للمعنى، لا مجرد إعادة تموضع للسلطة.