مقدمة
لطالما ارتبطت العلمانية في الوعي العربي المعاصر بمفاهيم التقدم والتحديث والتحرر من سلطة الماضي، لكن في عمق هذا التصور، ثمة جدل خفي يتجاوز الطرح السياسي أو القانوني للعلمانية، ويتسلل إلى بنيتها النفسية والسيكولوجية لدى من يتبنونها.
هل العلمانية خيار عقلاني خالص؟ أم أنها أحياناً تمثل نوعاً من رد الفعل النفسي على واقع اجتماعي وثقافي ضاغط؟
في هذا السياق، تبرز ظاهرة يمكن تسميتها بـ”الوعي الضدي”، وهي حالة يعيش فيها بعض المثقفين حالة رفض داخلي لثقافتهم أو مجتمعهم، لا باعتبار ذلك خياراً فكرياً واعياً، بل كرد فعل على شعور دفين بالدونية أو الاغتراب. فيتحول هذا الرفض إلى تبنٍ تلقائي أو متشنج لمفاهيم يُنظر إليها كبدائل “متفوقة”، دون أن تمر بالضرورة عبر نقد موضوعي أو حوار مع الذات الثقافية.
في هذا المقال، نحاول الغوص في الطبقات اللاواعية للموقف العلماني لدى بعض النخب العربية، دون نفي مشروعية الفكرة بحد ذاتها، بل سعياً لفهم تموضعها النفسي، وانعكاساتها على علاقة المثقف بمجتمعه، ودوره في التغيير أو القطيعة.
العلمانية كملاذ نفسي في وجه التوتر الثقافي
نشأت العلمانية في المجتمعات العربية في سياق الضيق والتوتر الذي يعيشه المثقف العربي في صراعه مع الثقافة السائدة. هذا المثقف الذي يفكر وينتج ضمن نموذج معرفي حداثي ، سواء كان متماهياً معه أو حتى رافضاً له.
وبالتالي يبقى أسير ما يسميه ميشيل فوكو بـ”الخطاب”، أي ذلك النظام من المعرفة الذي لا يحدد فقط ما يُقال، بل أيضاً من يُسمح له بالكلام، وفي أي سياق، وكيف يتم التفكير في القضايا.
فوكو يرى أن الخطابات ليست حيادية، بل هي أدوات للسلطة، تحدد ما يعتبر مقبولاً معرفياً وأخلاقياً في لحظة تاريخية معينة. ومن هذا المنطلق، فإن المثقف العلماني العربي، في تبنيه او رفضه خطاب الحداثة، يتكلم من داخل سلطة معرفية غربية الطابع، لا فكاك له منها.
في مواجهة الطوفان الحداثي الغربي، يسعى هذا المثقف إلى نفي النقص عن ذاته من خلال الاندماج في هذا التيار، ويواجه مجتمعه باستعلاء وطهرانية. فبينما ينتمي بجسده إلى الشرق المتخلف، يعوض ذلك بانتماء ثقافي وإرادي إلى الحضارة الغربية، مع بعض الانتقادات الشكلية التي تمنحه شعوراً موهوماً بالاستقلالية والكرامة الفكرية.
الفردانية في مواجهة مجتمع الجماعة
القيم الشرقية التي تعلي من شأن الجماعة وتهمّش الفردانية، تشكل عامل ضغط على المثقف العربي الذي يسعى لتأكيد تفرده. هذا التوتر يدفعه إلى تحدي المجتمع ومواجهته، لا بهدف إيجاد حلول توافقية أو مصالحة فكرية، بل لتكريس حالة من الانفصال النفسي والرمزي عن بيئته. فتغدو مواقفه الفكرية – ومنها تبني العلمانية – رد فعل على إحساس عميق بالعزلة والتهميش، لا مجرد اختيار عقلاني.
الموقف من الدين كمحرّك لا كمحصّلة
الموقف من الدين لا يُطرح غالباً كنتيجة لتفكير عقلاني مجرد، بل يظهر كمسبب لتبني الموقف العلماني لدى البعض. إلا أن هذا الموقف يُقدَّم غالباً ضمن مقولات تتعلق ببناء الدولة، وحقوق الإنسان، و”الوضعية العلمية” – أي المرجعية التي ترفض الغيبيات وتؤمن فقط بالمنهج العلمي – دون الدخول في مواجهة مكشوفة مع الدين. فالإعلان الجريء عن الموقف من الدين مكلف في السياق الاجتماعي العربي، ولهذا يتم تمريره في قوالب خطابية أكثر قبولاً، وإن كانت في جوهرها ترفض الدين أو الفهم السائد له.
إسقاط الفشل على المجتمع
من الملاحظ أن المراجعات النقدية للعلمانية العربية تندر في أدبيات التيار العلماني ذاته. فالفشل لا يُعزى إلى المفهوم أو إلى نخبه، بل يُسقط على المجتمع المتخلف الذي “يرفض العلاج”، مفضلاً السحر والأعشاب، في استعارات تختزل الواقع وتبسطه. وفي هذا السياق، تتحول العلمانية إلى دواء مفروض على مريض لا يعي حاجته إليه.
ازدواجية الخطاب: الدين المستهدف دائماً هو الإسلام السني
العلمانية تُقدَّم أحياناً كأداة سياسية لتشريع حكم الأقليات الدينية، لكنها في واقع الخطاب العربي لا تتعامل مع جميع الأديان أو الطوائف بمعيار واحد. فتركيز النقد العلماني ينصب على الإسلام السني بدرجة أولى، وعلى الشيعة الاثني عشرية بدرجة أقل، بينما تُعامل أقليات أخرى بتسامح غير مبرر أحياناً من قبل بعض التيارات العلمانية، مما يثير شكوكاً ويعمق الفجوة مع البيئة الاجتماعية المستهدفة بدعاواهم.
وصاية علمانية… واستنساخ للقداسة
يتبنى الخطاب العلماني في مجتمعاتنا أسلوباً استعلائياً مشابهاً – بل وموازياً أحياناً – لما يتهم به الخطاب الديني. فهو يرفض التعبيرات السياسية والدينية التي تنبع من المجتمع، ويصفها بالتخلف والماضوية، مطالباً بإلغائها أو تحييدها كشرط مسبق للحاق بركب الحضارة. في الوقت نفسه، تُقدَّم العلمانية كمسلّمة مطلقة لا تقبل النقاش، وعلى المجتمع – بكل ما يحمله من ذاكرة وتراث وهوية – أن “يلوي عنق تاريخه وحاضره” ليتوافق مع متطلباتها. وبهذا، يعيد هذا الخطاب إنتاج نمط التطرف الديني ذاته، حيث يلتقي كلا الطرفين في دائرة مغلقة من احتكار الحقيقة.
في هذا السياق، تبدو العلمانية العربية وكأنها تستنسخ البنية الذهنية للخطاب الديني المتشدد: إذ تنطلق من مبادئ تُعامَل كيقينيات لا تحتمل المراجعة أو التأويل، ويُختزل النقاش حولها في مجرد البحث عن “سبل تطبيقها” لا عن مشروعيتها أو قابليتها للواقع. المفارقة هنا أن مفاهيم الدين – رغم تعدد تفسيراتها – تنبع من بيئة ثقافية وجماعية تتفاعل معها، وتجد جذورها في التراث واللغة والوجدان الجمعي، بينما تظل المفاهيم العلمانية الوافدة مجردة، فاقدة للسند الثقافي، وغريبة عن السياق الذي يُراد لها أن تُزرع فيه قسراً.
خاتمة
تطرح إشكالية العلمانية وتبيئتها في مجتمعاتنا سؤالاً جوهرياً لا يمكن القفز فوقه: ما السبيل الحقيقي لتجاوز القصور الحضاري الذي نعانيه؟
هل هو في استيراد مفاهيم ومبادئ وُلدت في سياقات حضارية غربية ذات خصوصية تاريخية وثقافية، ثم محاولة فرضها على الواقع العربي من خلال إعادة تشكيل بيئتنا الثقافية والتاريخية لتتوافق معها؟ أم أن التحدي الحضاري الحقيقي يكمن في العمل من داخل نسيجنا التاريخي، من خلال إعادة قراءة التراث قراءة نقدية مبدعة، وتطوير مفاهيمه بما يتساوق مع حاجات المجتمع وتطلعاته دون التنكر لهويته؟
بين هذين المسارين، يقف الفكر العربي الحديث أمام مفترق طرق: إما أن يواصل استنساخ النماذج الغربية في محاولة يائسة لتجاوز الفوات التاريخي، أو أن ينطلق من الذات، لا بمعناها الانغلاقي، بل باعتبارها مجالاً حياً قابلاً للتطوير والتجدد.
العلمانية، كغيرها من المفاهيم الكبرى، لا يمكن أن تنجح كأداة إصلاح أو تحديث إلا إذا تأصلت في الواقع، وانطلقت من حوار حقيقي مع الذاكرة الجمعية والقيم السائدة، لا من موقع الاستعلاء أو الاستيراد الأعمى.
ربما آن الأوان لنتجاوز وهم الحلول الجاهزة، ونبدأ بصياغة مفاهيمنا الخاصة، التي تجمع بين العقل والروح، بين الحرية والهوية، وتسعى لنهضة لا تتعارض مع الجذور، بل تنبت منها