في لحظات الانهيار الكبرى، عندما تدمر الدول وتتفكك المجتمعات، يبدو الأمل رفاهية بعيدة المنال. لكن التاريخ يعلمنا أن من بين الرماد قد يولد كل شيء من جديد. فبين أنقاض برلين عام 1945، وبين ركام سوريا، تشابه في الألم… واحتمال في النهوض.
فهل يمكن لسوريا أن تحاكي التجربة الألمانية؟ ما الذي جعل ألمانيا تنهض بعد دمار شامل، وهل هناك جذور لهذا التحول في المبادرات الشعبية لا في السياسات فقط؟
برلين 1945… حين بدأت الحكاية من الصفر
عند نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت برلين مدمّرة بنسبة أكثر من 70%، بحسب تقرير نشره موقع Deutsche Welle، وبلغ عدد القتلى الألمان نحو 7 ملايين، بينما تفتتت الدولة إلى أربع مناطق نفوذ.
الكاتب الأميركي توني جودت في كتابه “ما بعد الحرب: تاريخ أوروبا منذ 1945” (Postwar: A History of Europe Since 1945)، يشير إلى أن “النكسة لم تكن فقط مادية، بل أخلاقية. شعب كامل كان مطالباً بإعادة تعريف نفسه بعد أن ارتبط بالنظام النازي.”
حسب دراسة نشرها مركز Bundeszentrale für politische Bildung (المركز الفيدرالي للتثقيف السياسي في ألمانيا)، فإن آلاف الجمعيات الدينية والمجتمعية قامت بدور أساسي في إعادة بناء البنية الاجتماعية، عبر مراكز إيواء ومدارس متنقلة ومبادرات غذائية، وهو ما اعتُبر حجر الأساس للتماسك المجتمعي بعد الحرب.
في هذه المرحلة ظهر مصطلح Trümmerfrauen (نساء الأنقاض)، وهن النساء اللاتي قمن بإزالة الأنقاض يدوياً، وساهمن في إعادة بناء آلاف المباني في المدن الكبرى مثل برلين ودريسدن.
المؤرخة الألمانية ليوني تريبه في كتابها “نساء الأنقاض: أسطورة الواقع”، توضح أن “دور النساء لم يكن مجرد مساهمة تقنية، بل كان فعلاً ثقافياً واجتماعياً يعيد الثقة بالمجتمع.”
خطة مارشال ودورها المحدود
رغم أهمية “خطة مارشال” التي قدّمتها الولايات المتحدة (بقيمة نحو 13 مليار دولار آنذاك)، فإن عدة مؤرخين بينهم الاقتصادي الألماني Werner Abelshauser يشيرون إلى أن 80% من النمو الاقتصادي بين 1948-1952 في ألمانيا جاء من جهود داخلية وليس من التمويل الخارجي. (المصدر: Max Planck Institute for the Study of Societies)
المصالحة المجتمعية: الدرس الأصعب
في محاكمات نورمبرغ، تمت محاكمة 24 من كبار مجرمي الحرب، لكن آلاف آخرين من النازيين اندمجوا لاحقاً في الدولة الجديدة، ما تطلب لاحقًا جهوداً مجتمعية لتعزيز الوعي التاريخي والمصالحة. ومن أبرز المبادرات:
إنشاء “معسكرات ثقافية شبابية” برعاية الكنائس لربط الألمان بقيم السلام والديمقراطية.
فرض تعليم التاريخ النازي إلزامياً في المدارس، وتدريس جرائم النظام كوسيلة لتحصين الأجيال القادمة.
وفي ورقة بحثية نشرتها جامعة Heidelberg الألمانية، جاء أن “المصالحة الألمانية لم تُفرض من فوق، بل تطلبت عملاً صبوراً من أسفل الهرم الاجتماعي، شاركت فيه الأسر والمدارس والمجتمعات.”
الدروس الممكنة لسوريا
في سوريا اليوم، بحسب تقرير نشرته مجموعة الأزمات الدولية (ICG) عام 2024، فإن فرص النهوض لا تزال ممكنة رغم الكارثة الإنسانية والسياسية، ولكن بشروط واضحة:
إشراك الشتات السوري في العملية السياسية والاقتصادية.
استقلال القضاء وفتح مسارات العدالة الانتقالية.
دعم المبادرات الأهلية والبلدية، خاصة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
كما يشير تقرير صادر عن Carnegie Middle East Center إلى أن “النجاة ليست فقط بوقف الحرب، بل بإعادة بناء الهوية السورية الجامعة من جديد، عبر مؤسسات مجتمعية ومدنية تُعيد الثقة بين المكونات.”
خاتمة:
النهوض ليس حلماً
ألمانيا لم تنهض وحدها، بل بنهوض مجتمعها أولاً، وبقبول مراجعة ماضيها ثانياً، وبحشد قواها الذاتية ثالثاً. وسوريا، رغم الجراح، تملك مجتمعاً واعياً، وشتاتاً حيوياً، ونساءً ورجالاً يخوضون معركة البقاء يومياً.
إن كنا نبحث عن معجزة سورية، فلن نجدها في مؤتمر مانحين، ولا في قرار دولي، بل في شابة تنظف مدرسة مدمّرة في إدلب، أو لاجئ يدرّس الرياضيات في مخيم في البقاع، أو طبيب يعود إلى دير الزور ليفتح عيادته رغم المخاطر.
كما قال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت:
“النجاح لا يكون فقط في النتيجة، بل في المحاولة التي تُخاض رغم كل الإحباطات.”
✅ المصادر والمراجع المستخدمة:
Tony Judt – Postwar: A History of Europe Since 1945
DW – “Berlin in 1945: The Battle and the Aftermath”
Bundeszentrale für politische Bildung – Civil Society in Postwar Germany
Max Planck Institute – “The Myth of the Marshall Plan”
Leonie Treber – “Trümmerfrauen: Mythos und Wirklichkeit”
Heidelberg University – Research on German Reconciliation Models
International Crisis Group (ICG) – Report on Syria 2024
Carnegie Middle East Center – “Rebuilding Syria from the Bottom Up”