تشهد السياسة الأميركية تجاه الملف السوري حالة من الغموض والتذبذب، خصوصاً في ظل مؤشرات متضاربة صدرت عن إدارة الرئيس الأميركي السابق والمرشح المحتمل للانتخابات المقبلة، دونالد ترمب. ففي الوقت الذي صدرت فيه إشارات إيجابية من واشنطن تجاه التقارب بين حكومة دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، فوجئ المتابعون بإجراءات عقابية غير مباشرة ضد البعثة السورية لدى الأمم المتحدة، مما يطرح تساؤلات عميقة حول حقيقة نوايا إدارة ترمب وموقع سوريا في استراتيجيتها المستقبلية.
في أعقاب الاتفاق الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد”، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية دعمها لوحدة الأراضي السورية، وهو موقف فسّره البعض على أنه انفتاح تكتيكي على الإدارة السورية الجديدة. إلا أن هذا الانفتاح لم يلبث أن اصطدم بتغيير مفاجئ في وضع الإقامة الخاص بأعضاء البعثة السورية في نيويورك، إذ أصبحت تأشيراتهم تُمنح وفق تصنيف خاص بالدول التي لا تعترف بها واشنطن كحكومات شرعية.
رغم أن القرار تم باقتراح من وزارة الأمن الداخلي، فإن موافقة وزارة الخارجية وتسريب القرار إلى الإعلام الأميركي لا يمكن قراءته إلا ضمن إطار توجيه رسائل سياسية متعددة الأطراف، منها الداخل الأميركي، والحلفاء الإقليميين، وحتى النظام السوري نفسه.
انقسام داخلي داخل إدارة ترمب: الأمن يشدد والسياسة تنفتح
وفقاً لمصادر دبلوماسية مطّلعة، تعاني إدارة ترمب من انقسام داخلي واضح حول كيفية التعاطي مع الحكومة السورية الجديدة. ففي حين يدفع الفريق الأمني باتجاه التصعيد والتشدد، يرى الفريق السياسي أن الانفتاح المشروط قد يخدم المصالح الأميركية على المدى البعيد، لا سيما في مواجهة التمدد الإيراني والحد من نفوذ روسيا.
يُعزّز هذا الاتجاه إعلان “قسد” استعدادها لتسليم إدارة المنشآت النفطية لدمشق، في مقابل ضمانات من القيادة السورية بالحفاظ على الاستقرار المحلي، وهو ما يتماشى مع رؤية واشنطن التي باتت تركّز فقط على منع عودة تنظيم داعش، واحتواء الدور الإيراني في سوريا، دون الدخول في نزاع مباشر حول مصير الحكومة السورية.
هل تنسحب أميركا من سوريا؟
تُشير تسريبات من أوساط “قسد” إلى أن قيادة القوات الأميركية أبلغت حكومة إقليم كردستان العراق بخطط إعادة تموضع أو انسحاب محتمل من سوريا. مثل هذا القرار، في حال اتخاذه، سيكون بمثابة تغيير جذري في المعادلة الإقليمية، ويعكس رغبة ترمب في تقليص انخراط واشنطن في النزاعات العسكرية طويلة الأمد، خاصة إذا ترافقت مع تفاهمات أمنية مع دول مثل تركيا، العراق، الأردن، وربما إسرائيل.
الانسحاب لا يعني ترك الساحة السورية فارغة، بل إن واشنطن تعمل – وفق ما يبدو – على بناء تحالف إقليمي بديل، يضمن مصالحها الأمنية دون الحاجة إلى وجود ميداني مباشر، مع ترك هامش للإدارة السورية للعمل، بشرط الالتزام بخطوط حمراء تتعلق بإسرائيل وتنظيم الدولة.
المعادلة الروسية – الإيرانية: بين الضغط والمقايضة
المفارقة في موقف ترمب أنه لا يعارض بقاء القواعد الروسية في سوريا، بل قد يرى فيها وسيلة لاحتواء إيران، وورقة تفاوضية في مساعيه لإعادة ترميم العلاقات مع موسكو، بعد مرحلة التوتر العميق في عهد بايدن. في المقابل، تسعى واشنطن إلى الضغط على إيران عبر أدوات اقتصادية وعسكرية، بهدف تقليص نفوذها الإقليمي وإجبارها على توقيع اتفاق نووي جديد بشروط أكثر تشدداً تشمل وقف البرنامج الصاروخي، وتقييد تخصيب اليورانيوم، والحد من دعم أذرعها المسلحة في المنطقة.
بين تركيا وإسرائيل: التوازن الصعب
العلاقة بين أنقرة ودمشق تشهد تطوراً ملحوظاً قد يحرج واشنطن في حال اختارت دعم مسار انفتاح تركي – سوري. وفي هذا السياق، تبدو إدارة ترمب حريصة على تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على التحالف مع تركيا، وتلبية تطلعات إسرائيل، التي تنظر بقلق إلى تقارب محتمل بين أنقرة ودمشق، وتخشى من عودة النظام السوري إلى الواجهة الإقليمية.
ختاماً: سوريا ورقة تفاوض أم ساحة نفوذ؟
يتضح أن الملف السوري لم يعد يحتل مركز الصدارة في أجندة إدارة ترمب، لكنه ما زال ورقة تفاوض مهمة ضمن ترتيبات إقليمية ودولية معقدة. الضبابية في الموقف الأميركي تعكس استراتيجية مرنة قد تسمح لواشنطن بالتحرك في أكثر من اتجاه، تبعاً لتطورات المنطقة وملفات أخرى مرتبطة، كالاتفاق النووي الإيراني والعلاقة مع موسكو.
ما بين الانفتاح والتشدد، وبين الانسحاب والمقايضة، تبقى سوريا في نظر ترمب ملفاً تكتيكياً لا أكثر، يُستخدم بقدر ما يخدم مصالح أميركا الكبرى.