لطالما كانت المنطقة الشرقية في سوريا، التي تضم دير الزور والرقة والحسكة، واحدة من أغنى المناطق بالموارد الطبيعية، لكنها في الوقت نفسه من أكثر المناطق تهميشاً من قبل نظام الأسد البعثي البائد. فقد أُهملت البنية التحتية، وضعفت الخدمات الأساسية، رغم أن هذه المنطقة تحتوي على مخزون ضخم من النفط والغاز، إضافة إلى الأراضي الزراعية الخصبة التي ساهمت في جعلها خزاناً اقتصادياً للبلاد. فما الأسباب التي أدت إلى هذا التهميش الممنهج؟ وكيف أثر ذلك على حياة السكان ومستقبل المنطقة؟
التهميش الاقتصادي والاجتماعي من قبل النظام البائد
التهميش التعليمي: عانت المنطقة من تراجع حاد في مستوى التعليم، حيث كانت معدلات الأمية مرتفعة مقارنة بباقي المحافظات. لم يتم بناء جامعات كافية، وكان التخصصات المتاحة محدودة، مما اضطر الكثير من الطلاب إلى الهجرة نحو دمشق أو حلب لاستكمال دراستهم. كما أن المناهج التعليمية كانت تخدم الدعاية السياسية للنظام أكثر من تطوير المهارات العلمية والعملية.
التهميش الطبي: القطاع الصحي لم يكن أفضل حالاً، حيث كانت المستشفيات تعاني من نقص حاد في الكوادر الطبية والمعدات الحديثة. معظم الحالات الحرجة كانت تنقل إلى مستشفيات العاصمة، مما تسبب في وفاة العديد من المرضى بسبب بعد المسافات. اليوم، تحتاج الدولة الجديدة إلى خطط إصلاحية جادة لإنشاء مستشفيات حديثة وتجهيزها بأحدث المعدات الطبية لضمان رعاية صحية مناسبة.
التهميش الزراعي: رغم أن المناطق الشرقية تعد من أغنى المناطق بالثروات الزراعية، إلا أن نظام الأسد أهمل تطوير هذا القطاع. كانت الأراضي الزراعية تفتقر إلى مشاريع الري الحديثة، كما لم يتم دعم الفلاحين بالأسمدة والمعدات المتطورة. المنطقة تمتلك مساحات واسعة لزراعة القمح والقطن، والتي يمكن أن تجعلها سلة غذاء للدولة الجديدة إذا تم استغلالها بالشكل الصحيح.
التهميش الصناعي: لم تحظَ المنطقة بأي مشاريع صناعية كبرى، على الرغم من توفر الموارد الطبيعية التي تتيح بناء صناعات واعدة مثل تكرير النفط وتصنيع المنتجات الزراعية. تسببت هذه السياسة في هجرة الكثير من العمال المهرة إلى مدن أخرى بحثًا عن فرص أفضل. إن استغلال هذه الموارد في ظل الدولة الجديدة يمكن أن يسهم في تحويل المنطقة إلى مركز صناعي مهم.
النتائج الكارثية للتهميش
الهجرة الداخلية: مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية، نزح أكثر من مليون شخص من أبناء المنطقة الشرقية إلى دمشق وحلب بحثاً عن فرص عمل، ما زاد من معاناة هذه المدن التي كانت تعاني أساساً من مشاكل اقتصادية.
صعود الجماعات المسلحة: أدى الإهمال المزمن إلى انتشار الفقر والبطالة، مما جعل الشباب عرضة للتجنيد من قبل الجماعات المتطرفة.
انعدام الثقة بالحكومة: فشل النظام في تقديم أي حلول تنموية حقيقية جعل أبناء المنطقة الشرقية يشعرون بالعزلة والتجاهل من قبل الدولة.
لمحة عن خيرات المنطقة وإمكانياتها الاقتصادية
تمتلك المنطقة الشرقية موارد هائلة، أبرزها:
- النفط والغاز: تشكل المناطق الشرقية المورد الأساسي للطاقة في سوريا، حيث تنتج أكثر من 70% من النفط السوري.
- الزراعة: تشتهر المنطقة بإنتاج القمح والقطن، حيث كانت توصف سابقاً بأنها “مخزن الحبوب السوري”.
- الثروة الحيوانية: تمتلك أعداداً ضخمة من الأغنام والأبقار، مما يوفر فرصاً ضخمة لصناعة الألبان واللحوم.
كيف يمكن لهذه الموارد أن تساهم في نمو الدولة الجديدة؟
إذا تمت إدارة هذه الموارد بشكل علمي وشفاف، يمكن أن تتحول المنطقة إلى قوة اقتصادية تدعم الاستقرار والتنمية. يمكن استثمار عائدات النفط في تطوير البنية التحتية، مثل بناء الطرق السريعة والجسور، وإنشاء شبكات كهرباء حديثة تضمن استدامة الطاقة للمنازل والمصانع. كما يمكن توجيه جزء من هذه العائدات إلى إنشاء مصانع حديثة تعزز الإنتاج المحلي، سواء في الصناعات التحويلية أو الزراعية، مما يسهم في خلق فرص عمل جديدة وتقليل الاعتماد على الواردات.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن تطوير قطاع التعليم من خلال بناء مدارس وجامعات تواكب التطورات العلمية، ودعم البحث العلمي الذي يساهم في تنمية القدرات المحلية. هذا الاستثمار في التعليم سيؤدي إلى خلق جيل قادر على قيادة النهضة الاقتصادية والإدارية في الدولة الجديدة.
أما القطاع الصحي، فيمكن تحسينه بإنشاء مستشفيات ومراكز طبية متطورة، وتوفير المعدات الحديثة والأدوية، مما يعزز من مستوى الرعاية الصحية ويقلل من الحاجة إلى العلاج في الخارج. كما يمكن دعم القطاع الزراعي عبر تطوير أنظمة الري الحديثة، وتحفيز المزارعين على استخدام التقنيات المتقدمة لزيادة الإنتاجية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في العديد من المحاصيل الأساسية.
علاوة على ذلك، يمكن استغلال الموارد الطبيعية مثل المياه العذبة والمساحات الزراعية الخصبة في تنويع الاقتصاد، وإنشاء مشاريع زراعية ضخمة تساهم في تحقيق الأمن الغذائي للدولة. كما أن تحسين إدارة الموارد المالية وإرساء نظام اقتصادي عادل سيضمن توزيع الثروة بشكل متوازن، مما يعزز من الاستقرار الاجتماعي ويحد من الفجوات الاقتصادية بين الفئات المختلفة.
كل هذه العوامل مجتمعة ستؤدي إلى رفع مستوى معيشة السكان، وزيادة الناتج المحلي الإجمالي، وتحويل الدولة الجديدة إلى نموذج اقتصادي ناجح قادر على تحقيق تنمية مستدامة واستقلال اقتصادي حقيقي.
الخاتمة
لطالما كانت المنطقة الشرقية ركيزة أساسية للاقتصاد السوري، إلا أن سياسات التهميش المتعمدة أدت إلى تدهورها اقتصاديًا واجتماعياً. وبينما استُغلت مواردها لصالح النظام، ظل سكانها يعانون من غياب التنمية والخدمات الأساسية. يبقى السؤال الأهم: هل ستشهد هذه المنطقة نهضة تنموية في المستقبل أم أنها ستظل رهينة للسياسات المركزية التي دمرت إمكانياتها لعقود؟