عندما بدأت الاحتجاجات في سوريا في آذار 2011، بدا للكثيرين أن النظام السوري سيسقط في وقت قصير على غرار الأنظمة العربية الأخرى التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي. ولدى توسع دائرة الاحتجاجات والمظاهرات وازدياد قمع النظام، توسعت الخطوات الإقليمية والدولية بشكل سريع تجلى في قطع العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري، وفرض عقوبات دولية مشددة عليه، واتخاذ قرارات أممية تحد من نفوذه بل وتطالب بازالته وبلغ الأمر حد تسليم مقعد سوريا في الجامعة العربية للمعارضة السورية.
واليوم وبعد مرور 13 عاماً على بداية الحراك، لا تزال الأزمة السورية عالقة دون حل ملموس، لتصبح واحدة من أكبر الأزمات السياسية والإنسانية على الساحة الدولية. وعلى الرغم من المبادرات الدولية والإقليمية، فما زال الحل السياسي بعيد المنال، نتيجةً لتضارب أجندات الفاعلين الدوليين المتواجدين داخل الأرا ضي السورية، ونتيجة لتعنت النظام السوري ورفضه القاطع للاعتراف بالمعارضة أو تخليه عن السلطة، وارتفاع طموح مطالب المعارضة رغم تخلي الكثير من الدول عن دعمها. كما تشهد الساحة الدولية تحركا لاترضى عنه المعارضة السورية كمحاولات التطبيع مع النظام واعادة العلاقات الدبلوماسية معه عبر طرح مبادرات منها عربي “كورقة اللاورقة ” التي تقدمت بها الأردن في حزيران عام 2023 وورقة “اللاورقة التي تقدمت بها ثمان دول اوربية الى مسؤول السياسات الخارجية والأمن في الإتحاد الأوربي جوزيف بوريل وذلك في تموز 2024 مطالبة باجراء مراجعة السياسات الاتحاد الاوربي تجاه سورية.
تهدف هذه الافتتاحية الى تسليط الضوء على ورقة اللاورقة الاوربية وتناقش مضمونها وأبعادها السياسية ومآلاتها ومحاولات فتح معبر أبو الزندين ضمن محاولات التطبيع التركي مع النظام السوري وفي ظل التفاهمات الروسية-التركية.
بيان جنيف ومحاولات تأطير الحل السياسي .
بعد اندلاع الثورة السورية في شهر أذارعام 2011 تسارعت الجهود العربية والإقليمة والدولية لتسوية الصراع، وكان تدخل الأمم المتحدة حاسمًا في تأطير معالم الحل السياسي في سوريا وذلك عبر قرارات دولية ابتدأت في شباط عام 2012، حيث قدم المبعوث الأممي كوفي عنان خطة من 6 نقاط تطورت لاحقًا إلى مايسمى “بيان جنيف” الذي صدر في 30 حزيران عام 2012عن “مجموعة العمل من أجل سورية”. وأهم مانص عليه البيان كان تشكيل “هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات” واقامة انتخابات سورية جديدة وكتابة دستور جديد واعتبر المرجع الاساسي للامم المتحدة حتى عام 2015، وكان من المفترض أن يتم تنفيذ هذه الخطوات بالتعاون مع ممثلي النظام السوري.
إلا أن البيان واجه تحديات كبيرة؛ فالنظام السوري رفض التخلي عن السلطة و لم يعترف بأي شكل من أشكال المعارضة، في حين رأت المعارضة السورية أن النظام لا يمكن أن يكون جزءًا من الحل ويجب استبداله. لقد أدى هذا التباين بين الأطراف السورية إلى عرقلة تنفيذ البيان، أما على المستوى الدولي، فالدول التي وافقت على البيان في مجلس الأمن لم تتفق فيما بينها على تفسير بنود ه وآليات تطبيقه الأمر الذي حال دون ذلك.
في محاولة أخرى لدفع الحل السياسي، تم عقد مفاوضات جنيف في 2 شباط 2014 بين المعارضة والنظام برعاية الأمم المتحدة، لكن المفاوضات انتهت دون تحقيق أي تقدم. وعلى الرغم من استمرار الحديث عن “هيئة الحكم الانتقالية” كمدخل للحل، بدأت أولويات أخرى تحتل الصدارة مثل مكافحة الإرهاب، والدستور، والانتخابات ومصير بشار الأسد وصلاحيات “هيئة الحكم الانتقالية”.
في هذه الأثناء، كانت التطورات الميدانية تلعب دورًا هامًا في تحديد مسار الحل السياسي. فقد تمكنت المعارضة من السيطرة على مناطق استراتيجية مثل مدينة إدلب، بينما تدخلت روسيا عسكريًا في سوريا في أيلول 2015 لدعم النظام، مما قلب موازين القوى لصالح النظام السوري.
تعقد المشهد السياسي والأنساني بعد التدخل الروسي وفي تشرين الاول وتشرين الثاني عام 2015، صدر بيانا فيينا وأكدا على ضرورة الحل السياسي في سوريا من خلال انتخابات حرة ودستور جديد، وصدر قرار مجلس الأمن رقم 2254 في كانون الاول عام 2015 ليؤطر مجددًا مرجعية الحل السياسي. نص القرار على دعم العملية الانتقالية، ولكنه تجاهل بشكل واضح مصير الرئيس السوري بشار الأسد، مما ترك الباب مفتوحًا لتفسيرات متعددة حول كيفية تطبيقه. كما أن القرار لم يتضمن آليات محددة للتعامل مع عرقلة تنفيذ بنوده.
ورغم الإجماع الدولي على وجوب انتقال سياسي في سوريا، إلا أن تفاصيل القرار كرست الخلاف الدولي حول الحل في سورية وبدت وكأنها تتماهى مع الرؤية الروسية التي تدعم بقاء النظام السوري متجاهلة مطالب المعارضة. ومع صدور القرار 2254، لم يعد “بيان جنيف” هو المرجعية الوحيدة للحل، وبدأت مرحلة جديدة من الجهود الدولية لإيجاد تسوية سياسية، ولكن دون نتائج ملموسة. وفي خطوة استباقية لقرار الامم المتحدة عقدت المعارضة السورية مؤتمر رياض (1) وشكلت هيئة التفاوض التي عقدت جولات تفاوضية مع النظام برعاية الامم المتحدة دون نتائج تذكر. وفي هذه الاونة خسرت المعارضة مدينة حلب وتوالى سقوط المناطق التي بيدها على حساب توسع النفوذ الروسي-الايراني في سورية وغابت تقريبا عن المشهد الدولي فكرة رحيل النظام وضرورة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي.
مسار أستانا و الرؤية الروسية
في ظل عجز الأمم المتحدة للدفع بالعملية السياسية قدمًا، تولت روسيا زمام المبادرة بتأسيس مسار أستانا في كانون الثاني 2017 بالتعاون مع تركيا وإيران، حيث ركز المسار في البداية على تثبيت وتوسيع وقف إطلاق النار، ونجح في جولته الرابعة في تحديد مناطق خفض التصعيد وسرعان ما أتخذ بعدًا سياسيًا وذلك من خلال عقد مايسمى بمؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي في كانون الثاني لعام 2018 واعتماد مخرجاته الى جانب القرار 2254 اساسا للحل في سورية.
لقد تبنى مسار أستانا الفكرة الروسية للحل في سورية والقائمة على مبدأ تمييع فكرة “هيئة الحكم الانتقالية”، والتركيز على الدستور والانتخابات.
وتكريساً لهذا الواقع فقد تم الإعلان عن تشكيل اللجنة الدستورية السورية في ايلول عام 2019، على أمل أن تكون خطوة حاسمة نحو صياغة دستور جديد لسورية. إلا أن هذه اللجنة واجهت العديد من العقبات، بما في ذلك الخلافات حول قواعد عملها ورئاستها وصلاحياتها. ورغم مشاركة المجتمع المدني إلى جانب النظام والمعارضة في اللجنة، إلا أنها فشلت في تحقيق تقدم ملموس خلال 8 جولات من الاجتماعات، ووصف المبعوث الأممي غير بيدرسون معظم تلك الجولات بأنها “مخيبة للآمال”.
ومن جديد دخلت العملية السياسة حالة جمود تام مع تفاقمٍ للوضع الإنساني والاقتصادي وتغول التدخل الايراني في كافة شؤون الحكم وانتشار صناعة المخدرات والكبتاجون على أوسع نطاق مما حدا بالمبعوث الأممي الخاص بسورية باقتراح مقاربة “خطوة مقابل خطوة” والحل المتدرج للأزمة السورية لكسر هذا الجمود. واعتمدت هذه الخطوة على مبدأ تقديم حوافز للنظام السوري مقابل التقدم في العملية السياسية. إلا أن هذه المبادرة سرعان ماتحولت عملياً إلى غطاءٍ لتطبيع العلاقات بين النظام والدول العربية، وتجلى هذا بعودة النظام إلى الجامعة العربية في أيار عام 2023 وعودة بعض العلاقات الدبلوماسية معه.
ودعماً لهذه المبادرة، فقد تقدمت الأردن بما سمي بالمبادرة الأردنية وذلك في حزيران عام 2023، واعتمدت على القرار 2254 كمرجعية للحل لكنها ركزت على تعديل سلوك النظام بدلاً من تغييره مقابل خروج كافة القوات الايرانية والميليشات الشيعية وقوات حزب الله من سورية وانسحاب كامل لكافة القوات الأجنبية بما في ذلك من شمال شرق سورية وقاعدة التنف لتبدأ مرحلة رفع العقوبات واعادة الاعمار. إلا أن المسار لم يحقق تقدمًا يذكر بل زاد تدفق المخدرات الى الأردن وبقيت أزمة صناعة وتهريب الكبتاغون، واللاجئين، والنفوذ الإيراني عالقة دون حلول، مما أعاد مسار الحل السياسي إلى حالة الجمود وتم تعليق اجتماعات ممثلي النظام مع ممثلي اللجنة الوزارية العربية.
قمة قبرص: ورقة اللاورقة- محاولة لتطبيع أوربي
لاشك في أن ظهور أزمات دولية كحرب روسيا-اوكرانيا وحرب غزة قد حرفت الإهتمام العالمي عن القضية السورية وتقلص عدد المنابر الدولية التي تعمل على تفعيل الحل السياسي وبقي مؤتمر بروكسيل لدول المانحين المنصة الدولية الوحيدة التي مازالت تركز على الوضع السوري وتقدم الدعم المالي لسوريا ودول الجوار. كما أن البيان الختامي لوزراء خارجية الإتحاد الأوربي يسلط الضوء على موقف هذه الدول من العلاقة مع النظام السوري.
في نسخته الثامنة التي عقدت في 27 أيار 2024 جدد وزراء خارجية دول الاتحاد الأوربي على اللاءات الثلاثة:” لا للتطبيع مع النظام، لا لرفع العقوبات، ولا للإعادة الاعمار” مالم يكن هناك تقدم في العملية السياسية وتطبيق كامل للقرار 2254. ورغم ذلك ففي تموز 2024، تقدمت ثماني دول أوروبية بعد قمة عقدت في قبرص، بطلب إلى مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، لمراجعة استراتيجية الاتحاد تجاه سوريا والتي تبناها في نيسان عام 2017، وذلك عبر وثيقة عرفت باسم “اللاورقة”. هذه الدول هي: إيطاليا، النمسا، اليونان، قبرص، التشيك، كرواتيا، سلوفينيا، وسلوفاكيا، موضحة في مقدمتها اللأسباب التي دعت إلى هذا، متساءلة عن جدوى العقوبات على النظام وموقف الاتحاد الأوربي من المعارضة وماتحقق عبر صرف المليارات من الدولارات للمساعدات الانسانية. وذكرت الوثيقة صراحةً ضرورة تفعيل التواصل المباشر مع النظام السوري وضرورة تعيين ممثل عن الإتحاد الأوربي خاص بسورية يلتقي بممثل سورية في بلجيكا. كما طالبت بمراجعة كاملة للسياسات الإتحاد الأوربي تجاه النظام وتجاوز موقفها من اللاءات الثلاث مما يساهم في تفعيل حقيقي لمشاريع التعافي المبكر الذي يدعمه الأتحاد الأوربي، وبالتالي فعلى الإتحاد الأوربي أن يكون أكثر براغماتية وعليه التوقف عن المطالبة برحيل النظام لأن الدور الأوربي قد انحسر تماما في الشرق الأوسط.
وطالبت الدول الثمانية بضرورة توقف المصارف الأوربية عن إدراج اسماء السوريين على اللوائح السوداء سيما فيما يتعلق منها بالبضائع غير المشمولة بالعقوبات كالمعدات الطبية والإنسانية. وفي ختام اللاورقة تقدمت الدول المعنية بتوصية تحث فيها الإتحاد الأوربي على ضرورة دعم مبادرة المبعوث الخاص الأخيرة لسوريا وأن تتبنى استراتيجية أكثر واقعية للقرار 2254.
ارتكزت ورقة اللاورقة على أربعة معطيات أساسية وهي:
- أولاً: دعم روسيا وإيران للنظام السوري لأنه بفضل هذا الدعم، استعاد النظام السيطرة على حوالي 70% من الأراضي السورية وبقي على قيد الحياة. وعلى الرغم من استمرار النزاع، فقد أصبحت خطوط المواجهة ثابتة منذ عام 2020، رغم حالة التأزم السياسي في المناطق خارج سيطرة النظام ولكن دون أي تغيير جذري.
- ثانياً: تطبيع العلاقات العربية مع النظام السوري بقيادة السعودية، حيث أعادت هذه الدول عام 2023 منح النظام مقعد سوريا في جامعة الدول العربية وفتحت أبواب الحوار معه. وأدى هذا التطور إلى خلق ديناميكية إقليمية جديدة، مما أوجد جموداً في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية.
- ثالثا: تعثر العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة رغم جهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة، غير بيدرسون، وعدم تحقيقها أي تقدم ملموس في مباحثات جنيف أو اللجنة الدستورية. كما فشلت استراتيجية “خطوة مقابل خطوة” التي تبناها بيدرسون في تحقيق أي نتائج، مما جعل الحل السياسي وفقاً لقرار الأمم المتحدة 2254 يبدو بعيد المنال.
- رابعاً: تفاقم الوضع الإنساني في سوريا حيث استمر تدهور الاقتصاد السوري وتزايد الطلب العالمي على المساعدات الإنسانية، مما دفع أعداداً كبيرة من السوريين إلى الهجرة سعيا وراء لقمة العيش والأمان.، وتحملت دول الخط الأول اليونان وايطاليا وقبرص أكبر تبعات الهجرة هذه.
وبالمجمل، فقد استندت ورقة “اللاورقة” إلى عشر مقترحات قدمتها على شكل أسئلة بدلا من الطرح المباشر مما يعكس الحذر والتعقيد الذي تنطوي عليه. وتتلخص مضامين الأسئلة بما يلي:
- أولاً: بإعادة تقييم صلاحية الأهداف الستة المحددة في الإستراتيجية الحالية. حيث تطالب الوثيقة بمراجعة شاملة لهذه اللأهداف التي تم تبنيها تجاه سوريا عام 2017، وتقييم مدى ملاءمتها للظروف الراهنة.
ثانياً: تعيين مبعوث أوروبي خاص لسوريا لزيادة القدرة الدبلوماسية للاتحاد على التعامل مع الأزمة السورية. - ثالثاً: إعادة تقييم دور المعارضة السورية التي يدعمها الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل التغيرات الكبيرة التي حدثت على الأرض وفي العلاقات الدولية.
- رابعاً: ضرورة موازنة نهج الاتحاد تجاه الأطراف السورية بحيث يتم دعم “المعارضة المعتدلة” فقط، ولكن في نفس الوقت تم اقترح أن يبقى الاتحاد الأوروبي على مسافة معينة من النظام السوري.
- خامساً: اعادة تقييم دور القطاع الخاص سيما إمكانية دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها جزءاً من جهود التعافي الاقتصادي.
- سادساً: استكشاف أدوات القوة الناعمة، مثل الدبلوماسية الثقافية، لتعزيز دور الاتحاد الأوروبي في سوريا.
- سابعاً: معالجة الآثار السلبية للعقوبات خاصة فيما يتعلق بآثارها السلبية على السكان، ومعالجة مشكلة الامتثال المفرط في النظام المصرفي.
- ثامناً: تعزيز التعاون مع دول المنطقة العربية التي قررت إعادة التواصل مع النظام السوري، لضمان تنسيق الجهود.
تاسعاً: تعزيز التعاون مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة، غير بيدرسون، ودعمه في عمله، خاصة فيما يتعلق بعمل اللجنة الدستورية. - عاشراً: مساهمة الاتحاد الأوروبي في تحقيق شروط العودة الآمنة والطوعية والكريمة للاجئين السوريين إلى بلادهم، وفقاً لمعايير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فمستقبل سوريا “محوري لأمن أوروبا”، نظراً لموقعها القريب.
الأسباب الحقيقة خلف موقف دول الثمانية
على الرغم من أن السياسات الداخلية والخارجية للدول الثمانية ليست متشابهة، أو متجانسة إلا أن هناك قضايا مشتركة تجمعها، وأبرزها قضية اللاجئين التي ساهمت في وصول بعض أحزاب اليمين الى الحكم كما في ايطاليا بقيادة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، التي تعتبر الهجرة تهديداً للهوية الثقافية والاجتماعية للبلاد، أو وصول اليسار الشعبوي الى الحكم في سلوفاكيا بقيادة روبرت فيكو، الذي يركز على خطر الهجرة على الأمن الوطني بسبب تغلغل المقاتلين بين اللاجئين. إن التوافق على معاداة اللاجئين استطاع أن يجمع بين أحزاب اليسار واليمين المختلفين سياسيا ويعزز من توجههما المشترك ضد سياسة الهجرة الى الاتحاد الأوروبي.
ولايخفى على أحد الدور الذي تلعبه روسيا في السياسة الداخلية والخارجية لبعض هذه الدول، خاصة تلك التي كانت جزءاً من الكتلة الشرقية السابقة مثل التشيك، سلوفاكيا، سلوفينيا، وكرواتيا. حيث تعاني هذه الدول من وجود موالين لروسيا، سواء في الحكم كما هو الحال في سلوفاكيا، أو من خلال الخوف من دعم روسيا للمعارضين لها. كما أن روسيا، تسعى بشكل جاد بعد غزو أوكرانيا، إلى إحداث انقسام داخل الاتحاد الأوروبي، من خلال استغلال قضايا مثل أزمة اللاجئين وطريقة التعامل مع الأزمة السورية لتفرق وحدة الإتحاد الأوربي الذي وقف مع أوكرانيا ودعمها بالمال والعتاد.
من الجدير بالذكر أن العلاقات الدبلوماسية بين هذه الدول والنظام السوري متباينة . فقد حافظت اليونان، وقبرص، والتشيك على سفاراتها في دمشق منذ اندلاع الثورة السورية، في حين انضمت إيطاليا إلى هذه الدول بعد إعلان وزير خارجيتها أنطونيو تاياني عن قرار تعيين المبعوث الخاص حالياً لوزارة الخارجية إلى سورية ستيفانو رافاجنان سفيراً في دمشق، لكن لن تستطيع المضي قدماً بهذا الأمر قبل معرفة موقف الإتحاد الأوربي من ورقة “اللاورقة” وبذلك ستكتفي بتسمية مبعوثها قائماً بالأعمال مع اقامته في دمشق. بذلك باتت إيطاليا التي تتزعم الدول الثماني هي الدولة الأولى من مجموعة الدول السبع الكبرى (كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة) الدولة الأوروبية السابعة التي سيكون لها سفارة في دمشق إلى جانب رومانيا، وبلغاريا، واليونان، وقبرص، والتشيك، والمجر مما يعكس تغيراً تاماً في موقفها تجاه النظام السوري.
بخطوات عملية تريد إيطاليا مراجعة سياسة الدعم المالي المقدم للمعارضة السورية ومنظمات المجتمع المدني، والتركيز بدلاً من ذلك على دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي يمكن أن تساهم في تحقيق نمو اقتصادي وأهداف اللاورقة. ولمتابعة ماابتدأت به في قمة قبرص، وضعت إيطاليا سوريا على أجندة اجتماع مديري الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)، المقرر انعقاده في أيلول 2024، بهدف مناقشة رؤية الدول الثمانية.
العناصر الاستراتيجية الأوروبية لعام 2017 المطلوب مراجعتها من الدول
- أولاً: إنهاء الحرب من خلال انتقال سياسي تفاوضي وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254 وبيان جنيف. يتطلب هذا الانتقال السياسي إشراك جميع أطراف النزاع في عملية تفاوضية لتحقيق تسوية سلمية.
- ثانياً: دعم المعارضة السياسية السورية، خاصة الهيئة العليا للمفاوضات، التي تمثل وفد المعارضة في المحادثات. كان الهدف من هذا الدعم هو تعزيز موقف المعارضة في المفاوضات والدفع بعملية الانتقال السياسي.، ولكن وفي ظل تسارع خطوات التطبيع بين الدول العربية وتركيا من ناحية وبين النظام السوري من ناحية أخرى فإن الدول الثمانية تطلب إعادة تقييم لدور المعارضة السياسية التي يدعمها الاتحاد الأوروبي مالياً من خلال صندوق مبادرة السلام، والنظر في جدوى هذا الدعم وحجمه.
- ثالثاً: فرض العقوبات على النظام السوري كأداة ضغط رئيسية. ولكن بعد أكثر من عقد على فرض هذه العقوبات، ومن خلال التأثير غير المقصود للإفراط في الامتثال سيما في سياسات البنوك، تظهر الحاجة إلى مراجعة تأثيرها وفعاليتها، خاصة في ظل ترويج النظام لفكرة أن العقوبات هي سبب المعاناة الاقتصادية في البلاد ،متجاهلاً دوره في ذلك.
فرص نجاح وثيقة اللاورقة.
ثمّة عدة معطيات تتحكم في ضعف فرص نجاح اللاورقة، التي تطلب تغيير سياسات الاتحاد الأوروبي استناداً إليها، وأهمها:
- أولاً: وجود موقف مناهض تماماً لمعظم ما جاء في الوثيقة من قِبل مجموعة الدول الرباعية الغربية (الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا) وتساندهم في ذلك اليابان وكندا، من مجموعة الدول السبع الكبار، ودون ريبٍ ستتمكن هذه الدول من التحشيد لموقف داخل الاتحاد ضد الورقة يفوق بكثير قدرة الدول الثمانية على حشد موقف مؤيد لها. في نفس الوقت تحاول فرنسا بمساندة ألمانيا صياغة ورقةٍ مضادةٍ لللاورقة الإيطالية. ولعل مجموعة الدول الرباعية الغربية وحلفاؤها من مجموعة السبع الكبار تحاول عزل رئيسة وزراء إيطالية جورجيا ميلوني ومنعها من التأثير في سياسات الاتحاد الأوروبي، وبالفعل نجحوا في هذا خلال قمة دول السبع الكبار التي استضافتها إيطاليا في حزيران 2024؛ حيث استُبعِدت عن المحادثات المتعلقة بإعادة تعيين رئيسة المفوضية الأوربية لولاية ثانية السيدة “أورسولا فون دير لاين” الأمر الذي أغضب ميلوني وجعلها تسعى لقيادة مجموعة داخل الاتحاد لمواجهة من يحاول تهميشها، وبظل هذه المعطيات فمن المرجح الأ تتمكن ورقة “اللاورقة” من النجاح.
- ثانياً: إن موقف نظام الأسد الداعم للحرب الروسية على أوكرانيا واعترافه بالجمهوريات التي احتلتها روسيا من الأراضي الأوكرانية يجعلها تشدد في موقفها من النظام السوري الداعم لروسيا ولحربها على أوكرانيا ب وبالتالي رفض التخلي عن أي من اللاءات الثلاث بحقه. بينما نجد أن وثيقة “اللاورقة” تحاول ايجاد المبررات للانفتاح على النظام السوري بل إن الوثيقة حرفيا ادعت أن الموقف الأوربي المتشدد من نظام الأسد هو بسبب الموقف السلبي من العدوان الروسي على أوكرانيا الذي “انعكس سلباً على العلاقات مع روسيا فيما يخص سورية أيضاً”، وهذا يدل على أن الدول التي تبنت ورقة “اللاورقة” تعتقد أن اصلاح العلاقة مع النظام السوري سيؤدي الى اصلاح العلاقات مع روسيا الأمر الذي ترفضه باقي الدول الاوربية ودول السبعة الكبار.
- ثالثاً: إن ولاية مسؤول الأمن والسياسة الخارجية السيد جوزيف بوريل على وشك الانتهاء في نهاية العام الحالي، لذلك من المتوقع أن يترك أمر التعامل مع الورقة الى المسؤولة القادمة السيدة كايا كالاس رئيسة الوزراء الإستونية التي تناصب روسيا العداء الشديد والتي أصدرت بحقها مذكرة توقيف وإحضار بتهمة ارتكاب جنايات حرب في شباط عام 2024. لذلك فمن المتوقع أن تقف كالاس ضد أي تحرك ايجابي باتجاه النظام السوري لان هذا الأمر سيتطلب منها اجراء تفاهمات مع روسيا الأمر الذي لايتوقع حدوثه
- رابعاً: إن وثيقة “اللاورقة” قد استندت في اساس مبررات صياغتها على التقارب العربي مع النظام السوري وعلى مبادرة المبعوث الأممي بيدرسون “خطوة مقابل خطوة” وباعتبار أن المبررات التي تسوقها هذه الوثيقة قد سقطت بفعل توقف المباحثات وعدم مقدرة النظام السوري على امتلاك قراره: مما يتوجب فيه التوجه لايران وروسيا لاتخاذ القرار، إضافة الى عدم احراز أي تقدم في مسار التطبيع مع تركيا رغم التنازلات التي يبديها الجانب التركي وتقابل بتعنت غير مبرر من قبل النظام السوري واستمرار الحرب الروسية- الاوكرانية، فإن احتمالية صمود وثيقة “اللاورقة” في الدفاع عن أهدافها والنتائج المتوخاة سيكون أمراً صعب المنال رغم طرحها لموضوع هام يتعلق بعودة اللاجئين.
- خامساً: منذ كانون الأول لعام 2012 ترأس بعثةَ الاتحاد لدى سورية قائمٌ بالأعمال بالنيابة يقيم خارج سورية ويقتصر عمله داخلها على زيارات ميدانية لمناطق المعارضة، واستمر الأمر هكذا حتى عام 2022 حيث قام القائم بأعمال البعثة دان ستوينيسكو -الدبلوماسي الروماني- في 8 آب، 2022، بزيارة إلى مدن تحت سيطرة النظام ل كحلب وحمص وحماة، بالاشتراك مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، بحجة أن هذا يأتي ضمن خطوات دعم مشاريع التعافي المبكر ولم يتم التنسيق فيها مع النظام السوري. لكن انتهت ولاية دان ستوينسكو ب 31 اب 2024، وخلفه في منصبه الدبلوماسي الألماني مايكل أوهنماخت الذي يتوقع أن يتبنى سياسة حكومته الألمانية في خطوات المقاربة مع النظام وبالتالي لن تستطيع وثيقة “اللاورقة” من اقتراح اقامة المبعوث الأوربي الخاص داخل دمشق واستمرار تواصله بحيادية مع المعارضة السورية.
أخيرا: إن ‘حداث أي تغيير في سياسات الاتحاد الأوربي تجاه النظام في سوريا يقتضي بالضرورة التنسيق التام مع الولايات المتحة الأمريكية للحصول على دعمها حتى لاتصطدم بالعقوبات الامريكية كما اصطدمت الدول العربية وبالتالي فإن أي تغيير في السياسات الأوربية لن يكون ممكننا قبل وصول الإدارة الجديدة الى البيت البيض مطلع 2025. كما أن أي انفتاح على النظام سيكون شكلياً لانه لن يحقق رفع العقوبات أو اعادة الإعمار أي أن النظام السوري اللاهث وراء المال ليقبل عودة اللاجئين لن يستمر في التعاون مع الإتحاد الأوربي فيما اذا قبل بما تضمنته وثيقة اللاورقة، وعليه فإن اساس الطرح في الوثيقة لن يكون ذا فعالية للاخذ بها وسيكون مألها مأل ما حصل في التطبيع العربي، وبالتالي فإن مشكلة اللاجئين التي تُعتبر محورية في اللاورقة يمكن إيجاد حلول لها دون الحاجة إلى أن يكون النظام شريكاً فيها.
موقف القبة الوطنية السورية من ورقة ” اللاورقة”
إنّنا في الحركة السياسيّة النسويّة السوريّة، نجد أن ورقة “اللاورقة” التي تقدمت بها الدول الثماني تفتقر الى اليات الحل والتنفيذ ولاتأخذ بعين الاعتبار الوضع السياسي لعودة اللاجئين المعارضين في ظل وجود الأسد ومخابراته والمليشيات المسانده له. كما أنها لاتأخذ بعين الاعتبار تطبيق القرار 2254 والذي ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالي وعلى صياغة دستور للبلاد واجراء انتخابات ومحاربة الارهاب بل تحاول تقديم الدعم الى النظام ورفع العقوبات عنه كجائزة ترضية في سبيل اعادة اللاجئين.
إن احاطة السيد بيدرسون لشهر آب/2024 أمام مجلس الأمن الدولي حول الوضع في سورية تؤكد أن سورية غير آمنة وأن الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل مازالوا مستمرين حتى اللحظة مع غياب مقومات الحياة الكريمة، فكيف يمكن طرح مثل هذه الوثيقة التي تنحاز الى طرف النظام وتهمش المعارضة السورية وتتجنب الخوض في الافراج عن كافة المعتقلين والمعتقلات والمغيبين قسرا والمغيبات واستمرار قمع الحريات وغياب سيادة القرار السوري. إنه من الضروري بمكان، التأكيد على أهميّة مطالب الشعب السوريّ الذي عاني أشد المعاناة على مدى 13 عاماً ونيف، وتشرد بالملايين في أرجاء المعمورة، وعدم تغييبها عن أي وثيقة أو طاولة مفاوضات لضمان نجاح العمليّة السياسيّة وديمومة السلام.
خاتمة
ناقش هذا الجزء من الافتتاحية ورقة “اللاورقة” التي قدمتها دول الثمانية الى مسؤول الأمن والسياسة الخارجية السيد جوزيف بوريل ووضح مضمونها ودوافعها ومآلاتها. إن تقديم الورقة بصيغة أسئلة للمناقشة يدل على افتقار هذه الدول الى صورة واضحة حول اليات تنفيذها وعدم يقينها من الا تلقى مصير ورقة ” اللاورقة” الاردنية فرغم الانفتاح الكبير من قبل الدول العربية على نظام الأسد، وتقديم الهدايا له بالمجان كإرجاع مقعد جامعة الدول العربية للنظام وتعيين سفير سعودي في دمشق, إلا أنها انتهت بايقاف عمل اللجنة الوزارية العربية.
إن محاولة اليمينية المتطرفة رئيسة حكومة ايطاليا باحداث اختراق في جدار المواقف الأوربية لاثبات وجودها يسيء لمنظومة الفكر الأوربي ومواقفه السياسية وقيمه الانسانية ويمهد لتعالي أصوات اليمين المتطرف في أوربا والذي يحاول أن يسبح عكس التيار ويحاول الظهور عبر تقديم حلول مجتزئة وغير واقعية لقضية هي الأعقد في العالم.
المراجع المستخدمة
1. “Council adopts EU strategy on Syria”. European Council, 03/04/2017, accessed through the following Link .
2. “Eight EU member states call for Syria policy reset”. Euractive, 22/07/2024. Acessed through the following Link .
3. “Italy appoints ambassador to Syria to ‘turn spotlight’ on country, foreign minister says”. Reuters, 26/07/2024. Accessed through the following Link .
4. “She’s angry, but Italy’s PM Meloni is short of numbers to veto a second von der Leyen term at EU summit”. Brussels Signal, 26/06/2024, Accessed through the following Link .