لم تكن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 12 أكتوبر 2024، التي أطلقها خلال عودته من ألبانيا، مجرد تحذيرات عابرة بشأن احتمال “احتلال إسرائيل لدمشق“. بل شكلت جزءاً من سلسلة مؤشرات على تنامي القلق التركي الكبير إزاء التطورات المتسارعة في سوريا. سبق تلك التصريحات زيارة ميدانية لقادة رفيعين في الجيش التركي في بداية الشهر نفسه، حيث تفقد قائد القوات البرية سلجوق بيرقدار أوغلو قواعد الجيش التركي شمال غرب سوريا. تلك الزيارة جاءت متزامنة مع تنفيذ القوات التركية المنتشرة في الشمال السوري تدريبات استعداد وجاهزية غير معتادة في ضل تنامي الحديث عن عمل عسكري تركي كبير بتجاه حلب. لأفشال حلم إسرائيل بإقامة دولة إسرائيل الكبرى.
إسرائيل الكبرى: هو معتقد خبيث يعكس طموحات توسعية لإسرائيل تتجاوز حدودها الحالية التي تحتلها. يشتمل هذا الحلم على فكرة إقامة دولة تمتد من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق، وهي مناطق جغرافية تشمل أجزاء من الأراضي المحيطة بفلسطين التي تحتلها حالياً، مثل الأردن ومصر ولبنان وسوريا والكويت والعراق والسعودية وجزء من تركي. تعود جذور هذا المفهوم إلى تفسيرات قومية متطرفة ترى أن هذه الأراضي هي جزء من “إسرائيل التوراتية الكبرى“، ومع ذلك، فإن هذه الطموحات التوسعية تظل مثار جدل دولي، إذ تعتبره تركيا تهديداً لاستقرار المنطقة ومصالح الدول المجاورة. هذه الرؤية تسعى لتعزيز النفوذ الإسرائيلي في الشرق الأوسط من خلال استغلال الصراعات المحلية والسياسية لتوسيع نطاق سيطرتها أو تأثيرها، مما يخلق المزيد من الحروب والصراعات في الشرق الأوسط .
على الرغم من تكثيف العمليات العسكرية الإسرائيلية جنوب لبنان، كانت تركيا قد كثفت دعواتها للنظام السوري لفتح حوار حول الأوضاع في سوريا. كما أبدت استعدادها لرفع سقف المحادثات، بما في ذلك إمكانية لقاء أردوغان بالرئيس السوري بشار الأسد، وذلك في ظل رؤية مؤسسات الدولة التركية بأن الحرب في المنطقة قد تتوسع لتؤثر على المصالح التركية. بناءً على هذه الرؤية، ازداد التنسيق بين تركيا ودول إقليمية مثل مصر والسعودية، خاصة في مناطق مثل القرن الإفريقي ووادي النيل، التي تشهد نشاطاً إسرائيلياً متزايداً.
في الوقت الذي تسعى فيه تركيا لإعادة تموضع “سورية” المركزية، ازدادت تصريحات نظام الأسد حول “اللامركزية”، مما أثار قلقاً بالغاً لدى أنقرة. فقد تحدث الأسد في أغسطس 2024 عن إعادة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات كجزء من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، وأعاد تكرار تلك الأفكار في سبتمبر. رأت تركيا أن تلك الخطط قد تكون محاولة لاستيعاب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية التابعة لها، وهو ما ترفضه أنقرة بشكل قاطع، إذ تطالب بحل قسد نهائياً. خاصةً وأن قسد كانت قد تفاوضت مراراً مع النظام السوري، مع مطالبتها بتبني خيار اللامركزية.
في بداية أكتوبر 2024، نقلت وكالة “تاس” الروسية عن سفير النظام السوري في موسكو بشار الجعفري، نفيه لأي احتمال لعقد لقاء بين الأسد وأردوغان قبل أن تستجيب تركيا لمطلب الانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، والتوقف عن دعم ما تصفه دمشق بـ “الإرهابيين”. هذه المواقف تظهر تعقيد الوضع بين الجانبين، في وقت تسعى فيه تركيا لتأمين مصالحها على الأرض السورية.
منذ نهاية عام 2023، واصلت إسرائيل تكثيف هجماتها على مواقع إيرانية في سوريا دون تدخل مباشر من روسيا. في أوائل أكتوبر 2024، استهدفت إسرائيل مستودعات أسلحة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله قرب قاعدة حميميم الروسية في اللاذقية، مما يشير إلى أن التنسيق الإسرائيلي الروسي لا يزال يثير قلق أنقرة. وعلى الرغم من قرب هذه الهجمات من المصالح الروسية، فإن روسيا لم تتخذ أي خطوات واضحة للاعتراض، مما يعكس احتمال إعادة موسكو النظر في تحالفاتها الإقليمية، خاصة في ظل المواجهات الدائرة في أوكرانيا.
بالنسبة لأنقرة، فإن استمرار التنسيق الإسرائيلي الروسي قد يضعف الموقف التركي في سوريا، حيث اعتمدت تركيا على تناقضات المواقف الروسية والأمريكية لتحقيق توازنات في الملف السوري. ومع احتمال تراجع الدعم الروسي للضغط على التواجد الأمريكي في شمال شرق سوريا، قد تجد تركيا نفسها في موقف أكثر تعقيداً فيما يتعلق بتأمين مصالحها.
إلى جانب تركيز إسرائيل على الجنوب السوري المحاذي لهضبة الجولان، من المتوقع أن تولي تل أبيب اهتماماً خاصاً لشمال شرق سوريا، الذي يُعتبر بوابة عبور للأسلحة الإيرانية والمليشيات نحو لبنان. تدرك أنقرة جيداً أن توسع النفوذ الإسرائيلي في تلك المنطقة قد يؤدي إلى تعقيدات أكبر، خاصة في ظل وجود قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من واشنطن.
دعم إسرائيل لقسد:
في أكتوبر 2019، أشارت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” إلى أن قيادياً في قسد قد طلب من إسرائيل دعمها لمواجهة التوغل التركي في شمال شرق سوريا. تلك الحادثة كشفت عن وجود قنوات خلفية للتواصل بين قسد وإسرائيل، مما يعزز احتمال وجود دعم إسرائيلي لقسد في مواجهة تركيا. في أغسطس 2022، ذكرت صحيفة “ميدل إيست مونيتور” أن تل أبيب قدمت دعماً سياسياً وأمنياً لقسد.
وسط هذه التطورات المتسارعة، يبدو أن تركيا ستتشبث بشكل أكبر بوجودها العسكري في سوريا. بالإضافة إلى تعزيز دعمها لفصائل المعارضة السورية، تحسباً لأي طارئ قد يحدث في المنطقة. ويبدو أن أنقرة تستعد للتعامل مع سيناريوهات متعددة، خاصة في ظل الحديث عن تعزيزات جديدة للنظام السوري في شمال سوريا تابعة للفرقة 25 المدعومة من روسيا.
إن استمرار التواجد العسكري التركي في سوريا ليس فقط لحماية حدودها من التهديدات الأمنية القادمة من الشمال السوري، بل أيضاً للوقوف في وجه تمدد النفوذ الإسرائيلي والكردي، الذين ترى فيهم تركيا تهديداً مباشراً لاستقرارها الداخلي والإقليمي.
خاتمة
تشير التطورات الأخيرة إلى أن تركيا تجد نفسها في وضع حرج ومعقد في سوريا. بين التحركات الإسرائيلية المتزايدة والتغيرات في المواقف الروسية، وكذلك تحديات قسد، تعمل أنقرة على الحفاظ على تواجدها العسكري والدبلوماسي في سوريا. ومع توسع دائرة الصراع في المنطقة، سيبقى التحدي الأكبر أمام تركيا هو كيفية إدارة تلك الملفات المتشابكة للحفاظ على مصالحها الأمنية والسياسية.