في ظل التحولات الجيوسياسية السريعة، تقف سوريا عند مفترق طرق حساس، حيث تتشابك مصالح القوى الكبرى مثل روسيا وإيران. يعمد النظام السوري إلى التعامل بحذر مع التصريحات التركية، ساعياً للحفاظ على توازن دقيق بين الحلفاء الرئيسيين في صراعها المستمر. هذا التوازن ليس مجرد خطوة تكتيكية، بل هو استراتيجية حيوية تهدف إلى ضمان بقاء واستمرار النظام السوري في وجه التحديات الإقليمية والدولية المتصاعدة.
منذ نهاية عام 2022، تسعى موسكو جاهدة لتعزيز العلاقات بين سوريا وتركيا كجزء من استراتيجيتها الأوسع لمواجهة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الساحة الأوكرانية. روسيا ترى في تركيا حليفاً محتملاً يمكن أن يلعب دوراً مهماً في تحقيق أهدافها الإقليمية. لذلك، تعمل موسكو على ضخ الدماء من جديد في علاقتها مع تركيا بعد فترة من الفتور، استعداداً لجولة جديدة من التصعيد مع الناتو.
من الناحية الأخرى، تظل إيران متحفظة تجاه الجهود الروسية لتحسين العلاقات بين سوريا وتركيا. إيران تدرك جيداً أن أي تقارب بين أنقرة ودمشق يمكن أن يؤثر سلباً على نفوذها في سوريا. بالنسبة لطهران، فإن التفاهمات التركية-الروسية قد تعني فقدان جزء من سيطرتها على الأراضي السورية لصالح موسكو. لذلك، تحرص إيران على أن تمنع روسيا من ان تكون هي الوسيط الرئيسي في أي مفاوضات بين سوريا وتركيا، لضمان عدم تهميش دورها.
وفقاً للمعلومات المتاحة من الساحة العراقية، فقد تدخلت طهران لعرقلة محاولات الحكومة العراقية لعقد لقاءات بين تركيا والنظام السوري. هذا التدخل يعكس القلق الإيراني من تأثير هذه اللقاءات على نفوذها في سوريا، خاصة في ظل غياب تصور واضح لمستقبل هذه الاجتماعات. هذا ما منع انعقادها رغم التسريبات الإعلامية في شهر حزيران/يونيو الماضي، التي تحدثت عن تقدم ملموس في وساطة بغداد بين أنقرة ودمشق.
نهج النظام السوري في التطبيع مع تركيا
يعكس سلوك نظام الأسد حالة من الحذر والشك في الدوافع التي جعلت الرئيس التركي يؤكد استعداده لعقد لقاء مع بشار الأسد. تصاعدت هذه التصريحات قبل قمة حلف شمال الأطلسي التي ستستضيفها واشنطن في شهر تموز/يوليو الجاري. من المفترض أن تشهد القمة لقاءً ثنائياً بين الرئيسين التركي والأمريكي، كان مقرراً في أيار/مايو الماضي، لكن واشنطن قامت بإلغائه نتيجة خوف بايدن من تداعيات مثل هذه القمة على حملته الانتخابية، خاصة في ظل تصاعد الخطاب التركي ضد الحرب على غزة.
في الوقت نفسة النظام السوري لا يريد إغضاب واشنطن عن طريق إبداء الاستعداد للتنسيق مع تركيا. لأن الأخيرة تستهدف بشكل أساسي من التقارب مع النظام السوري العمل على الضغط على شمال شرق سوريا الخاضع للنفوذ الأمريكي. هذا النفوذ يعد عاملاً مهماً في توازن القوى في المنطقة، والنظام السوري يدرك جيداً أن أي تغيير في هذا النفوذ قد يكون له تداعيات كبيرة على موقفه.
من ناحية أخرى، يعيش النظام السوري فترة من الانتعاش منذ انطلاق حرب غزة والتزامه بالهدوء التام فيها. العديد من المسؤولين الغربيين قاموا بزيارة دمشق، وعقدت البعثة الأوروبية الخاصة بسوريا عدة ورشات عمل لمناقشة عمليات إعادة التعافي المبكر. هذه الزيارات تمثل بارقة أمل للنظام السوري، الذي يأمل أن يتطور الأمر إلى درجة إقناع واشنطن بالمزيد من تخفيف العقوبات عنه.
تركيا من جانبها تسعى للعب دور الوسيط في الأزمة السورية، مستغلة علاقاتها المتوازنة مع كل من روسيا والولايات المتحدة. الحسابات الداخلية والخارجية لأنقرة تلعب دوراً كبيراً في هذا التوجه. تركيا ترى في دور الوسيط فرصة لتعزيز نفوذها في المنطقة وتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
على الصعيد الداخلي، ترى تركيا في التقارب مع النظام السوري وسيلة للضغط على القوى الكردية في شمال شرق سوريا، التي تعتبرها تهديداً لأمنها القومي. هذا الضغط يمكن أن يكون جزءاً من استراتيجية أوسع للتعامل مع الملف الكردي، الذي يشكل أحد أهم التحديات الأمنية لأنقرة.
أما على الصعيد الخارجي، تسعى تركيا لتعزيز موقعها كلاعب إقليمي مهم، قادر على التأثير في مسار الأحداث في سوريا والمنطقة بشكل عام. هذا الدور يمكن أن يعزز من موقفها في المفاوضات مع القوى الكبرى، ويمنحها ورقة ضغط إضافية في التعامل مع التحديات الإقليمية والدولية.
ورغم هذه التحركات، يبقى مستقبل العلاقات بين سوريا وتركيا معقداً وغامضًا. الحسابات المعقدة واللاعبين الدوليين المتعددين يجعلون من الصعب التنبؤ بمسار هذه العلاقات. النظام السوري لم يتجاوب بعد مع كل المساعي الدولية والإقليمية الرامية إلى تفعيل الحل السياسي، وتسهيل عودة اللاجئين، ويبحث دائماً عن المكاسب دون تقديم تنازلات تذكر، إما نتيجة عدم الرغبة أو فقدان القدرة على منح المكاسب للدول المطبعة.
ختاماً
في النهاية، تبقى سوريا ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات، مع تزايد التحديات والمخاطر التي تواجهها من مختلف الجهات. النظام السوري يحاول الحفاظ على توازن حساس بين القوى الكبرى المؤثرة في مصيره، واللعب على التناقضات بين روسيا وإيران وتركيا. هذه اللعبة السياسية المعقدة تتطلب منه الكثير من الحذر والذكاء، لضمان بقائه واستمراره في ظل الضغوط الإقليمية والدولية المتزايدة.
بناءً عليه، حتى وإن حصل اللقاء بين أردوغان والأسد، يبقى نجاح المسار من عدمه مرهوناً باعتبارات تتخطى الجانبين، وتتعلق بالديناميات الأوسع في المنطقة. تبقى الأوضاع في سوريا معقدة ومتشابكة، ومن الصعب التنبؤ بمستقبل العلاقات السورية-التركية في ظل الظروف الحالية.
حيكم لله و بآرك لله فيكم يا أبطال ♥️♥️♥️💪💪💪
بارك الله فيكم وبجهودكم