الشيخوخة والهجرة: التحديات الديموغرافية التي تواجه المجتمع السوري
تواجه سوريا أزمة ديموغرافية متصاعدة تتمثل في نقص حاد في نسبة الشباب، مما يدفع مجتمعنا السوري نحو الشيخوخة بسرعة غير مسبوقة. هذه الظاهرة ليست فقط نتيجة للحرب التي امتدت لأكثر من عقد من الزمن، بل تتعمق بسبب العديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تتفاعل لتشكل مشهداً ديموغرافياً معقداً.
ففي العقود الأخيرة، شهدت سوريا تغيرات جذرية في العديد من جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. واحدة من القضايا التي أصبحت تبرز بشكل متزايد هي النزف الحاد في نسبة الشباب في المجتمع، مما يدفع سوريا نحو ظاهرة الشيخوخة بوتيرة سريعة. هذه الظاهرة ليست فقط مشكلة ديموغرافية، بل تحمل في طياتها تداعيات عميقة على التنمية المستدامة، والاستقرار الاجتماعي، والنمو الاقتصادي.
لطالما تميز المجتمع السوري قبل العام 2011 بأنه مجتمع شبابي فتي، إذ كانت فئة الشباب تشكل النسبة الأكبر من إجمالي عدد السكان. إلا أن هذه النسبة بدأت تتراجع منذ ذلك الوقت بفعل أسباب كثيرة أوجدتها ظروف الحرب الطويلة وتبعاتها، ما سيترك آثارًا سلبية على مستقبل البلاد التي بدأت تعاني من خلل ديموغرافي يتفاقم يومًا بعد يوم.
أسباب زيادة معدل شيخوخة سوريا
تقارير منظمة الأمم المتحدة للسكان “UNFPA” توضح أنه من المتوقع أن يشهد مجتمع سوريا تحولاً هائلاً في هيكلية الاعمار خلال السنوات القادمة، مع ارتفاع ملحوظ في نسبة الشيخوخة. وفقاً لتقرير صادر عن المنظمة، من المتوقع أن يتضاعف عدد الأشخاص الذين تجاوزوا سن الستين بنسبة خمسة أضعاف بين عامي 2020 و2050. يعكس هذا الارتفاع الكبير في النسبة المئوية للمسنين – الذين تتجاوز أعمارهم 60 عاماً – النقص الحاد في عدد الشباب في المجتمع السوري.
وبحسب التقرير الذي نشرته منظمة الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، فإن هذا التغيير الديموغرافي المتوقع سيكون له تأثيرات كبيرة على الديناميات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد. وقد حذر مدير المكتب المركزي للإحصاء سابقاً من خطورة هذه الظاهرة، مشيراً إلى أن الشيخوخة تتغلغل في أوساط المجتمع السوري بسرعة، مما يجعل استشراف مستقبل البلاد أمراً أكثر تعقيداً وتحدياً.
الهجرة حلم الشباب السوري
إضافة إلى العمليات العسكرية الهمجية التي شنتها قوات النظام السوري وحلفاؤه روسيا وايران منذ بداية الثورة السورية، والتي أسفرت عن تشريد ملايين السكان، وتحويلهم إلى لاجئين خارج الحدود، ونازحين داخل سوريا، يستمر الشباب في مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة، وما ينتج عنها من غياب أبسط مقومات الحياة، وتراجع فرص العمل، وانخفاض مستوى الدخل، وانهيار العملة والفساد والغموض المحيط بالمستقبل. إلى جانب ذلك، تزيد الحالة الأمنية السيئة وضغط الخدمة العسكرية في جيش النظام من رغبة الشاب السوري في الهجرة لأي مكان.
وبحسب مصادر متابعة من داخل دمشق، فإن غالبية الشباب الذين غادروا البلاد خلال العام الماضي كانوا من مواليد عام 2004، أي في سن الخدمة الإلزامية. وقد اختار العديد منهم أربيل في كردستان العراق كوجهة رئيسية لهم نظراً لسهولة الحصول على تأشيرات الدخول. وحذرت المصادر من أن سوريا قد تصبح قريباً وجهة للكهول والمعدمين والمهمشين الذين لا يملكون أي إمكانية للهجرة.
توضح الوقائع في سوريا أن ظاهرة الهجرة لا تنحصر داخل مناطق سيطرة النظام السوري فقط، بل تمتد لتشمل أيضاً المناطق التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وحتى المناطق التي تخضع لسيطرة فصائل المعارضة السورية. في هذه المناطق، يواجه الشباب تحديات متشابهة، إذ فرضت قسد الخدمة الإلزامية على الشباب، بينما يعاني الشباب في المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة من قلة الفرص الاقتصادية والاستقرار الأمني. يعيش الشباب تحت خطر مستمر من قصف قوات النظام والهجمات التي تشنها قوات قسد، ويجدون أنفسهم محاصرين بين ويلات الحرب ونقص الفرص، مما يدفعهم للتفكير في الهجرة نحو بلدان أخرى بحثاً عن حياة أفضل.
صعوبة زواج الشباب في سوريا
يواجه الشباب السوري الذين لم يهاجروا تحديات متزايدة في بناء حياتهم الزوجية. فعلى الرغم من رغبتهم في الزواج وتأسيس أسرهم، إلا أن ارتفاع تكاليف تأمين المسكن والشروط المعيشية الضرورية لبناء الأسرة قد أدى إلى انخفاض معدلات الزواج بشكل غير مسبوق في سوريا. حيث يجد الشباب نفسهم محدودي الاختيارات ومضطرين إلى تأجيل خططهم الزوجية بسبب الضغوط الاقتصادية. هذا الوضع يخلق دورة مفرغة تؤثر سلبا على التوازن الاجتماعي والديموغرافي في المجتمع السوري، مما يزيد من التحديات التي يواجهها الشباب في تحقيق تطلعاتهم
ففي عام 2010، سجل حوالي 228 ألف عقد زواج، إلا أن هذا الرقم انخفض بشكل ملحوظ في عام 2017، حيث لم يسجل سوى 100 ألف عقد زواج. هذا الانخفاض يعكس الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها الشباب، والتي أدت إلى تراجع قدرتهم على تأمين حياة مستقرة وبناء أسرهم.
الشباب دائماً ما يكونون حوامل لمشاريع التغيير والإصلاح الاجتماعي، وفي الحالة السورية، كانت الثورة التي قام بها وقادها الشباب شاهداً حياً على هذا الدور المحوري. ومن المنطقي أن يؤدي نقص الشباب وزيادة الشيخوخة إلى تباطؤ في عجلة البناء والإصلاح في المجتمع بشكل عام، وخاصة في سوريا حيث أثرت سنوات الحرب التي شنها نظام الأسد وحلفاؤه بشكل كبير على كل جوانب الحياة السورية، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً.
يمثل نقص الشباب وارتفاع نسبة الشيخوخة تحدياً كبيراً للمستقبل، حيث يمكن أن يؤثر على قدرة المجتمع على التعافي والبناء مرة أخرى. إن فقدان الشباب كعنصر ديناميكي في المجتمع يعني فقدان محرك رئيسي للابتكار والتغيير، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية بشكل أكبر.
في ظل استمرار العوامل التي أدت إلى هجرة الشباب وتراجع معدلات الولادة، يحذر الباحثون الاجتماعيون من تغييرات خطيرة في تركيبة المجتمع السوري في جميع مناطق السيطرة على الجغرافية السورية. إن نقص العنصر الشبابي في المجتمع يعني فقدان الأجيال الأصغر لنموذج القدوة، وهو ما ينذر بتأثير سلبي على تطور قيمهم وسلوكياتهم الاجتماعية.
الأطفال والمراهقون الذين ينشؤون في أسر غير مكتملة أو يكبرون دون وجود نموذج شبابي إيجابي, هذا النقص في القدوات الإيجابية يمكن أن يؤدي إلى تشكل أجيال منعزلة عن قيم المجتمع ومبادئه الأصيلة، مما يزيد من فجوة الفهم والتواصل بين الأجيال المختلفة ويهدد بزعزعة استقرار المجتمع السوري في المستقبل.
خاتمة
إن استمرار الهجرة وانخفاض معدلات الزواج والإنجاب ستؤدي إلى تغييرات جذرية في التركيبة السكانية للمجتمع السوري، مما يهدد بزيادة معدل الشيخوخة وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. لذا، فإن إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية باتت ضرورة ملحة لضمان مستقبل أكثر استقراراُ وتوازناً للمجتمع السوري.
واقع مرير الله يفرج . شكرا لجهودكم
نعم، الواقع مرير بالفعل، والأوضاع في سوريا تتطلب حلولاً جذرية وعادلة تخدم مصالح الشعب وتحقق استقرار المنطقة. نشكرك على تعليقك ونتمنى أن تسهم مقالاتنا في زيادة الوعي وتسليط الضوء على القضايا المهمة التي تواجه أهلنا في سوريا. نسأل الله الفرج للجميع.