حكاية القمع والمأساة
لم تكُ سوريا -يوماً- مجرد سردية لخلاف سياسي بين المعارضة والنظام، بل هي حكاية طويلة من القمع والظلم والمعاناة الإنسانية منذ أنْ حكم البلاد حافظ الاب حتى نظام وريثه بشار الابن حيث اكتمل بناء الديكتاتورية جدرانها الصماء وسدودها اللانهائية، وأصبح للقمع أبراج وهميَّة الحريات التي اختاروا لها منتجعات للتعذيب -وغالباً حتى الموت- في أقبية المخابرات والفروع الامنية، التي انتشرت كالفطر في كل شبر من التراب السوري، تسرق الأحلام وتفتك بالآمال وتجفف الإبداع.
وعندما هبت رياح الثورة مبشره بالحرية ( 15 آذار 2011)، وجدت نفسها محاصرةَ بين سندان قمع نظام الأسد ومطارق مصالح دول السيادة وذيولهم من الحكام العرب الخائبون أصلاً. وهذا جعل أحلام الثوار تتحول إلى كوابيس، أجساد الأبطال تتحول إلى ضحايا تذبح بالجملة، ومن بقي حياً إتقى فناؤه بتبديل موقع متراس نضاله مهاجراً لبلاد آمنة كي يتابع تحقيق أهدافه قبل أنْ تتحطم الآمال على صخور الفشل والخيبة.
منذ بداية اندلاع الثورة السورية المباركة، كانت سوريا عرضة لأحداث مأساوية لا يمكن وصفها بالكلمات. سردية النظام السوري بقيادة بشار الأسد تدعي أنه يحارب الإرهاب ويحافظ على سيادة الدولة، في حين أنَّ الواقع المرير كان يتكشَف عن مجازر إنسانيَّةٍ مروعةٍ تُرتكب -حتى اليوم- بلا رحمة لشعب سوريا الذي قارب أن يدخل من بوابة بالحرية.
سوريا بعين الأسد
يصوّر بشار الأسد أنَّ سوريا دولة بريئة تواجه مؤامرات خارجية وهجمات إرهابية من قبل جهات خفيَّة، ويتبجح بلا حياء أو خجل أنَّ دوره هو حماية البلاد من “المتطرفين”، لكن الحقيقة المرة تكشف عن نظام قمعي فاسد يستخدم القوة العسكرية لقمع صوت الشعب وتدمير أي معارضة له. حيث استخدم النظام السوري كل وسائل القمع والدمار لسحق ثورة الشعب المحقَّة. أعلن بكل وقاحة ” الأسد أو ندمر البلد” … ثم قامت قوات الأسد بقتل الآلاف من المدنيين العزل، واعتقال الآلاف وتهجير الملايين من المعارضين، وتدمير مدن بالكامل .
لم يكتف الأسد بذلك، بل استخدم كل الأساليب اللا إنسانية -القذرة- من ضمنها استخدام الأسلحة الكيميائية ضد السكان البريئين، ما أدى إلى موت الآلاف من المدنيين الأبرياء، ومن لم يَمُت بات مشوهاً للأبد. وهم كثيرون أياً. لقد تحوّلت سوريا تحت حكم الأسد إلى مسرح للدمار والخراب، بعد أنْ تمَّ تجاهل حقوق الإنسان وتجاوز كل القوانين الدولية.
لذلك، ليس الأسد بعينه هو المسؤول عن هذه المأساة، بل يجب أيضا إحتساب أدوار القوى الإقليمية والدولية التي دعمت وساندت هذا النظام القمعي، مثل روسيا وإيران سواء بالتسليح أو الدعم السياسي، ومن خلفهم منظمات مجرمة جلبها الأسد من 80 جنسيَّة مختلفة مباركة بصمت قادة بلادها.
توظيف دراما القمع
كيف استخدم الأسد الدراما السورية لتسويق براءة الدولة؟
ترافق موسم الدراما السورية هذا العام بظاهرة التنوع الكبير في الدراما السورية، حيث تسنى للمشاهد أن يستقبل أي عمل درامي بطرائق متعددة، سواء كان ذلك من خلال تقدير جوانبه الإبداعية أو من خلال فهمه للرسائل السياسية المخفيَّة في النص. ونظراً لأن الإعلانات المباشرة لبراءة الأسد ونظامه أصبحت مرفوضة، مستهلكة، وغير فعّالة، فإن الترويج للأفكار والتوجهات السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية بطرق غير مباشرة أصبح الأكثر انتشاراً وتأثيراً في الوقت الحالي. وكشاهد على تلك الأعمال الفنيَّة، هو مسلسل “ولاد بديعة” الذي عرض في موسم رمضان 2024 .
نبذة عن مسلسل “ولاد بديعة”:
دون الحاجة إلى النظر في الأدوات الفنية التي استُخدمت في هذا المسلسل، نجد في سياقه توظيفاً فنياً مُبْهراً للأغاني والموسيقى التي تهدف إلى تعزيز صورة الشخصية الرئيسية “أبو الهول“، وبناء شخصيته بشكل يبين اجرام افراد الشعب وبراءة الدولة. ومن خلال كلمات الأغنية المصاحبة له:
“فاحتْ ريحة البارود.. يا هلا وطلت الأسود.. الله ولبيسَة العقال.. الله وشيالة الفرود.. واحدكم بعشر رجال قد المرجلة وقدود”
تُظهر شخصية أبو الهول كشخصية قوية وجريئة مع توجيه إشارات واضحة إلى استعراض القوة والعنف ضدّ هيبة الدولة المهيبة. وبالتالي، يتم تعزيز صورته كشخص مؤثر وقوي أمام الجمهور، ويتم استخدام هذا التوجيه المتقن لدعم الرسالة السياسية للمسلسل.
وبمقاربة “دراما القمع من خلال الإيحاء السياسي، يتبين أن الفرق الأساسي بين الشخصيات الفردية والسلطة الحاكمة، يكمُنُ في استخدام العنف. يتم تصوير الشخصيات الفردية، متمثلاً بشخصية “أبو الهول” باعتبارها ممارسة للعنف بشكل أكبر وأشد من السلطة الحاكمة التي ظهرت ردود أفعالها أقلّ بكثير عن حقيقتها التي عاصرناها في واقع الحال. ففي المسلسل لم تكن -كما في الواقع- أنها المحتكر الرئيس للعنف. جاء العمل الدرامي برؤية مغايرة ومزيفة، حيث يظهر أن العنف يتم ممارسته بشكل أكبر وأكثر فعاليَّة من قبل افراد الشعب بدلاً من الدولة.
تتضمن بعض الأحداث الاجتماعية المتنوعة في المسلسل، مثل الخلاف بين الدبّاغين والفلاحين، ومشكلات العقوبات الغربية على البلاد، ومحاولات التحايل عليها، رسائل سياسية مهمة حول الظروف الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع السوري. يظهر المسلسل كيف تؤثر هذه المشاكل على حياة الناس بشكل مباشر، وكيف يتعين عليهم التعامل معها بشكل يومي. بالإضافة إلى ذلك، يُظهر المسلسل كيف يتم استغلال العديد من الفرص الفاسدة، وكيف يتم التلاعب بالقوانين والنظام في بعض الأحيان.
يظهر في مسلسل ولاد بديعة أحد مواقع التصوير الذي يقع وسط أحياء مدمرة بشكل كامل، ولا يُعرف بالضبط ما حدث بها، كأنها دمرت تلقائياً دون تدخل خارجي. يُستغل هذا الموقع من قبل الأشخاص في عمليات النصب والاحتيال، حيث يقومون ببيع وشراء العقارات والممتلكات بواسطة عقود ووكالات مزورة. يقوم الأشخاص بفعل ما يشاؤون دون أي تدخل من السلطات، أما السكان الذين يعيشون في هذه المناطق، فهم يُعتبرون جميعاً مجرمين وأفراد عصابات متنوعة، حيث يعتبرون أن هذه المناطق هي المكان الأكثر أماناً بالنسبة لهم، وفقاً لما يقولونه في المسلسل.
إدانة الجهات الدينية أيضاً
يسلط مسلسل “ولاد بديعة -أيضاً- الضوء على الجانب الديني، حيث يُلقى المسؤولية عن الاحتيال والاستغلال أيضاً على الشيوخ والمراجع الدينية. يُسمح لمستغل محتال، يُعاني من اضطرابات نفسية وأخلاقية، بالوصول إلى الناس وممارسة النصب والاحتيال باسم الدين، بسبب تواطؤ بعض الشيوخ. تنجح شخصية “مختار” -الذي يقوم بتجسيده الممثل “محمود نصر”- في أن يصبح مؤثراً تحت عباءة وعظ ديني، عن طريق خداع أحد الشيوخ. بالمقابل، لا تتدخل الدولة في المؤسسة الدينية على الإطلاق، وهي رسالة مبطنة لتبرئة الدولة من التسلط على المؤسسات، و اتهاماً للشعب بالفساد. وبالتالي، تظهر الدولة كمُتهمة بمحاربة الفساد، بينما يتم اظهار الشعب على انه هو المجرم.
الخاتمة
عندما تضع القبضة الأمنية لنظام الأسد قبضتها لإستغلال المواهب الفنية في انتاج مسلسلات من أجل جعلها كصك براءة للمجرم بشار، تكون عبارة “هزلت” هي الكلمة المفتاحية ل(دراما القمع) وستصبح قريباً هي العبارة التي ستنقش على شاهدة قبر هذا النظام.
احسنت القول هذا جزء بسيط من انحطاط المسلسلات السورية …