الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران علاقة عداء أم تحالف
في الأول من شهر نيسان 2024، نشر السياسي والإعلامي السوري زكي الدروبي في منصة “سوريا” إضاءة ذات أهمية كبيرة، يحلل فيها -الكاتب- تذبذبات الاستراتيجية الأميركية حيال إرهاصات الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وتداعيات تأثير موقعها الجيوسياسي وقوتها النفطية على المخطط الأمريكي لخلق شرق أوسط جديد. وقد قرر فريق تحرير القبة إعادة نشر هذا المقال ليتسنى للأصدقاء منصتنا الإطلااع على هذه الإضاءة التي جاءت متزامنة مع قرع طبول حرب كونية ثالثة التي يتفادى عقلاء قادة العالم وقوعها.
***نص المقال كما ورد***
يختلط الأمر على متابعي الأخبار بشأن العلاقة الإيرانية الأميركية، فهل هي علاقة عداء أم تحالف؟ ولماذا هذا التناقض الظاهر في العلاقة؟ وللإجابة على هذه الأسئلة، لابد من استعراض تاريخ الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران الخمينية.
يمكن فهم الاهتمام الأميركي بالمنطقة لامتلاكها احتياطيات النفط والغاز الضخمة، ودورها في تنمية الاقتصادات وازدهارها، ولكون النفط والغاز أحد الحوامل الرئيسية للدولار الأميركي، بعد صدمة نيكسون 1971، وإلغائه تغطية الذهب للدولار الأميركي، وبما يعزز مركزية الدولار كعملة عالمية في التجارة والأسواق، ولمنع استخدامهما كسلاح اقتصادي ضدها وحلفائها و… الخ. بالإضافة للموقع الجيواستراتيجي، وإشرافها على ممرات مائية مهمة في حركة التجارة العالمية، وبضرورة إبعاد إيران والعرب عن روسيا، فقد نبه بريجنسكي الرئيس الأميركي كارتر بأن “أكبر نقطة ضعف” للولايات المتحدة، تكمن في القوس الممتد من بنغلادش عبر الهند وباكستان إلى عدن في اليمن، ونفس النصيحة قدمها لكارتر أيضا هنري كيسنجر.
لهذا عملت أميركا على إبعاد خطر تشكيل تكتل شرق أوسطي من حواف العالم القديم (إيران وتركيا والدول العربية) يتحالف من عمق العالم القديم (روسيا)، ودعمت الانقسامات بين تركيا وإيران والدول العربية، وبين الدول العربية نفسها، وإن كان أتاتورك وخلفاؤه قد ابتعدوا عن الجنوب، فإن الشاه رضا بهلوي سعى للتمدد غربا، وأطلق عام 1935على دولته اسم “إيران”، تيمنا بالعرق الآري، وتقربا من هتلر، بسبب منع البريطانيين له من التمدد غربا وهذا ما كلفه في النهاية منصبه، بعد تدخل عسكري بريطاني روسي، واضطر للتنازل عن العرش إلى ابنه، ونفي خارج البلد، وبعد مدة انطلقت الثورة الإيرانية لتطيح بالشاه، وتأتي بأصحاب العمائم، وتعمق الشرخ مع جيرانهم العرب بشعار تصدير الثورة.
في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، خشي ريغان الجمهوري من توجه إيران للاتحاد السوفيتي، إن تم منع تزويدها بقطع التبديل لقواتها العسكرية.
حاولت أميركا الدفاع عن حليفها الشاه الإيراني، لكنها لم تستطع إنقاذه، فخمنت بأن أصحاب العمائم لن يستطيعون إدارة الدولة، وبنفس الوقت سيكونون – بسبب مرجعيتهم الإسلامية – عائقا أمام التمدد الشيوعي.
في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، خشي ريغان الجمهوري من توجه إيران للاتحاد السوفيتي، إن تم منع تزويدها بقطع التبديل لقواتها العسكرية، فقدم لها السلاح، فيما عرف لاحقا بفضيحة “إيران غيت”، وهو نفسه – ريغان – الذي أغرق أو أصاب بأضرار جسيمة نصف الأسطول الإيراني خلال يوم واحد (عملية فرس النبي 18 نيسان\ أبريل 1988).
وسمح بوش الأب الجمهوري للشركات الأميركية باستيراد النفط الإيراني، وعملت إدارته على دعم إصدار تقرير نهائي من الأمم المتحدة ألقى باللوم على العراق لإشعاله الحرب الإيرانية\العراقية، وسعت إدارته أيضاً إلى إقناع إيران بلعب دور في حرب الخليج.
وفي عهد الديمقراطي بيل كلينتون، ورغم رؤية إدارته آنذاك، بأن إيران وراء عمليات حماس الانتحارية في إسرائيل في آذار\ مارس 1996، ووراء تفجير قاعدة الخبر السعودية ومقتل 19 أميركيا في حزيران \يونيو من نفس العام، وغيرها من العمليات الإرهابية، وسعيها لتطوير برنامجها النووي، لكن الرد اقتصر على إصدار أمر تنفيذي بقطع كلفة أشكال التجارة والاستثمار مع إيران من قبل الشركات الأميركية، ومن ضمنها طبعا مشتريات النفط الإيراني، والتي كانت تشكل حوالي 20% من صادرات إيران.
وحسب ديفيد هيل وكيل وزارة الخارجية الأميركية الأسبق، تحولت سياسة إدارة كلينتون تجاه إيران من الضغط والاحتواء، إلى المغازلة العلنية مع انتخاب محمّد خاتمي رئيساً لإيران، والقادم مما كان يسمى “المعسكر المعتدل”، وساهمت في تعزيز المعسكر السوري – الإيراني في لبنان من خلال مراعاة الأسد على مدار ثماني سنوات في التسعينات خلال مفاوضات السلام، وغضّ الطّرف عن سلاح “حزب الله”، والذي تحول من حالة إرهابية خطيرة إلى قوّة وطنيّة وإقليميّة كبيرة، واستمر الدبلوماسيون الأميركيون يؤكدون على ضرورة تطبيق اتفاق الطّائف، وتجريد الميليشيات من سلاحها “حزب الله”، وانسحاب القوّات الأجنبية “إسرائيل وسوريا”، إلا أنها بقيت أقوالا فارغة دون أي فعل.
مع وصول بوش الابن للسلطة، وبعد أحداث 11 أيلول \ سبتمبر 1991، أظهر الإيرانيون رغبة في التعاون مع أميركا ضد عدوهم المشترك “طالبان”، وخلال اجتماعات سرية بين مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين ونظرائهم الأميركيين في جنيف، قدموا للأميركيين خرائط ومعلومات تفصيلية عن قوات طالبان وتحركاتها، وأعطوهم نصائح بكيفية التعامل معهم، حسب “ريان كروكر” وكان آنذاك مسؤولاً كبيراً في وزارة الخارجية الأميركية.
وفي العراق وبعد انهيار نظام صدام، أرسل “كروكر” إلى بغداد لتشكيل مجلس الحكم العراقي، ومرر لسليماني أسماء المرشحين الشيعة المحتملين للمجلس، من خلال سياسيين عراقيين، وعند التشكيل تخلى عن المرشحين الذين وجدهم سليماني مرفوضين بشكل خاص، وقال “كروكر” إن “تشكيل مجلس الحكم كان في جوهره مفاوضات بين طهران وواشنطن”.
وبعد وصول أوباما للحكم، أطلق يد إيران في المنطقة مقابل الاتفاقية النووية، وقال في نهاية عام 2014 إن “إيران يمكن أن تصبح قوة إقليمية ناجحة للغاية إذا وافقت طهران على اتفاق طويل الأمد لكبح برنامجها النووي”.
في اليمن، لم تقدم إدارة أوباما أي دعم لجهود مكافحة التمرد الحوثي الذي تمدد واحتل العاصمة اليمنية أواخر 2014، وحين تحركت السعودية ومعها التحالف العربي لحماية أمنها القومي، مارست أميركا الضغوط لإيقاف الحرب، وعندما كانت القوات المشتركة على مشارف تحرير الحديدة، واقتربت لحظة الحسم، ازدادت الضغوط، وتعالى صراخ الغرب محذرين من “مأساة إنسانية وشيكة”، و”موت محدق بالملايين جراء المجاعة باعتبار الحديدة شرياناً حيوياً للعون الإنساني”، وتحولت الحديدة فيما بعد إلى شريان رئيسي للحرس الثوري الإيراني، وحزب الله لإمداد الحوثي بالأسلحة والصواريخ والمسيرات التي يهدد بها اليوم أمن الملاحة العالمي، ورغم استهداف صواريخ ومسيرات الحوثي لعدة سنوات منشآت حيوية في السعودية، إلا أن الإدارة الأميركية لم تفعل ما ينبغي لحماية حليفتها، واستمرت في مغازلة الإيراني.
وفي الوقت الذي عمل فيه ترامب على محاصرة إيران بالعقوبات، وقتل أحد أهم الشخصيات العسكرية الإيرانية (قاسم سليماني)، قام في أيار 2020 بسحب أنظمة صواريخ باتريوت، وبعض الطائرات والجنود، الذين نشروا في المملكة العربية السعودية في أيلول 2019 عقب الهجمات الحوثية على منشآت نفطية وحيوية سعودية، كرسالة للسعودية بسبب عدم تعهدها تخفيف الإنتاج وتخفيض أسعار النفط، والتي سببت مشاكل للشركات الأميركية.
الاستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة الأميركية تجاه إيران، هي الاحتفاظ بها ضمن محورها، أو على حيادها ومنعها من الارتماء في حضن آخر غير حضنها، واستخدامها فزاعة ضد جيرانها العرب.
وفي عهد بايدن سحبت الولايات المتحدة أنظمة الدفاع الجوي، وبطاريات باتريوت من المملكة العربية السعودية، في الوقت الذي كانت فيه ميليشيات الحوثي تستهدف منشآت حيوية ونفطية سعودية وإماراتية، وفي عهده أيضا، تم تحرير 6 مليار دولار إيرانية مجمدة في كوريا الجنوبية مقابل تحرير خمسة سجناء أميركيين في إيران، وكان بايدن قبلها قد أفرج عن مبلغ مليارين و700 مليون دولار من الأصول الإيرانية المجمدة في العراق في حزيران\يونيو 2023، ثم تلاها الإفراج عن مبلغ 10 مليارات دولار لطهران من العراق في تموز\يوليو 2023، كما ارتفعت صادرات النفط الإيرانية بشكل كبير خلال الفترة الماضية في محاولة أميركية لتعويض النقص في إمدادات الطاقة بسبب حرب أوكرانيا، والعقوبات على النفط الروسي.
من الاستعراض السابق، نجد أن الاستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة الأميركية تجاه إيران، هي الاحتفاظ بها ضمن محورها، أو على حيادها ومنعها من الارتماء في حضن آخر غير حضنها، واستخدامها فزاعة ضد جيرانها العرب، كجزء من استراتيجيتها العالمية لمحاصرة المنافسين الصاعدين للولايات المتحدة سواء روسيا أو الصين، عبر أساطيلها البحرية ونفوذها في دول القوس الجنوبي على المحيط الهادئ، بدءا من بحر اليابان مرورا ببحر الفلبين وبحر الصين الشرقي والجنوبي وخليج البنغال وصولا إلى بحر العرب.
*** نهاية المقال ***