قرارٌ طائشٌ جعل الكُحْل يصيبُ بالعَمى
في ظل تحديات اقتصادية متزايدة تعيشها سوريا، وجد السوريون أنفسهم مرة أخرى أمام تحدٍ جديد يضاف إلى قائمة الصعوبات التي تواجههم يومياً. والتي كان أحدثها إعلان رفع أسعار الخبز بنسبة 100% وزيادة في أسعار المحروقات، التي تلاها صدور ما سميَّ (مكرمة حكومية) في شكل زيادة في الرواتب والأجور للعاملين في القطاع العام. لكن هل هذه المكرمة هي الحل الفعّال للخروج من هوة انهيار الاقتصاد أم مجرد قطرة ماء في بحر من الصعوبات؟
لقد جاء قرار بشار الأسد بزيادة الرواتب والأجور بنسبة 50% للعاملين في الدولة، طارحاً معه العديد من التساؤلات حول فعاليتها وكفايتها في تخفيف العبء المالي على المواطنين، خاصة مع تصاعد أسعار السلع الأساسية بشكل مستمر وتدهور قيمة الليرة السورية في الأسواق المحلية.
مقاربات من واقع المعيشة
إذا نظرنا إلى الأرقام، نجد أن قيمة الرواتب لا تزال تبقى بعيدة كل البعد عن متطلبات الحياة الكريمة. فمع أن الرواتب ارتفعت، إلا أنها لا تزال تعتبر متدنيَّة جداً مقارنةً بارتفاع أسعار السلع والخدمات. فعلى سبيل المثال: إنَّ عائلة مكونة من ستة أفراد تحتاج إلى مبلغ يصل إلى 8 ملايين ليرة سورية شهرياً لتلبية احتياجاتها الأساسية للوقوف على حافة معدلات الفقر، بينما أعلى راتب يبلغ متوسط الدخل لهذه العائلة حوالي 470 ألف ليرة، مما يجعل الفارق بين الدخل وتكاليف المعيشة في حدّ الفقر كبير حداً. وفي الوقت نفسه يعاني المواطن من ارتفاع سعر الدولار لمستويات قياسية متذبذبة ومتصاعدة، حتى وصوله الآن إلى 15000 ليرة مقابل كل دولار، وهذا الأمر يزيد في حدة الأزمة المالية، ويجعل الوضع أكثر تعقيداً وصعوبة.
من جانب آخر، أثار هذا القرار قلق الكثيرين من أن تكون هذه الزيادة تمهيداً لرفع الدعم الحكومي عن بعض السلع -وهو احتمال مبني على تجارب مماثلة حدثت سابقاً-، فإن حدث ذلك سيكون صاعقة ماحقة لكونها ستزيد من الأعباء المعيشية للمواطنين بشكل يتعذر تحملها، خاصةً بما يخص الفئات الضعيفة وذات الدخل المحدود المتضورة من الجوع حالياً.
ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا عن المواطنين الذين لا يعملون في القطاع العام؟ كيف سيتمكنون من تحمل الأعباء المالية الجديدة؟
تدهور المعيشة
ونقتطع هنا جزءاً من توقعات الاقتصادي السوري والباحث في كلية لندن للاقتصاد، زكي محشي في تعليق للجزيرة نت، أنَّ تفاقم معاناة السوريين سيزداد حتماً بعد أنْ تمَّ إعلان برنامج الغذاء العالمي إنهاءَ برنامج مساعداته في جميع أنحاء سوريا العام الجاري لنقص التمويل، بعد أن كان يقدم المساعدات الغذائية والعينية لـ 5.5 ملايين شخص يتوزعون على جميع المحافظات السورية. وانه سيكون لذلك ارتدادات سلبية كبيرة، خاصة وأن نصف الأسر السورية، وفقا للتقديرات الرسمية، تعاني من انعدام الأمن الغذائي، ما يعني زيادة في معدلات الفقر والارتداد على الصحة العامة، وقد يصل بالبلاد إلى مجاعة.
ويرى الباحث أن سوء الأوضاع المعيشية للسوريين مع بداية السنة الحالية يعود إلى أسباب، منها تلك الناجمة عن سنوات الحرب، ومنها قديمة متجددة، وهي التي أدت، في الأساس، إلى الحراك في 2011، ولاحقا النزاع المسلح الذي لا يزال مستمرًا.
ويسرد الباحث الأسباب كالتالي:
- تغوّل الاستبداد، وتعمّق الاحتكار، وسيطرة رأسمالية المحاسيب على الاقتصاد أو مصادر الثروة في سوريا، وهو ما استمرّ وتوسّع بشكل أكبر في سنوات الحرب.
- التدهور الكبير بالاقتصاد الإنتاجي؛ فسوريا خسرت أكثر من 60% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهذا ينعكس بشكل كبير على معيشة السوريين.
- اعتماد سوريا بشكل أساسي على الاستيراد، ولا سيما المواد الغذائية كالقمح، وهذا يزيد من العجز في الميزان التجاري، حيث إن العجز تجاوز الـ3 مليارات يورو، بواقع 4 مليارات يورو واردات مقابل أقل من مليار يورو صادرات.
- ازدياد الدَّين الخارجي على سوريا، مع اعتمادها على إيران في استيراد النفط الذي يسجَّل كدين على سوريا، وهي مشكلة ستتحملها الأجيال الجديدة.
- استمرار العقوبات الاقتصادية على النظام، والذي ينجح في تحويل أثرها السلبي إلى الناس على حساب إبعاد هذا الأثر عن رأسمالية المحاسيب، والأخيرة مصدر مالي رئيسي بالنسبة إليه.
- اختلاف الجهات المسيطرة على مناطق سوريا، ما يضعف التكامل الاقتصادي على المستوى الوطني، إلى جانب خروج الكثير من الثروات الطبيعية لسوريا عن سيطرة الحكومة المركزية في دمشق.
خاتمة
يظل هذا السؤال: هل هذه مكرمة أم نقمة؟
بالطبع، واقع الحال يطرح تحديات جديدة على النظام والمجتمع في المناطق الخاضعة لسيطرته، مما يجعلنا نتساءل عن استراتيجياتها لمواجهة هذه الأزمة المتفاقمة. إذ يتطلب حل الأزمة التفكير في خطط شاملة وفعالة تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتخفيف العبء عن كاهلهم والتي تتمثل بقلع هذا النظام من جذوره.
في النهاية، فإن الحلول المستدامة لتحسين الوضع الاقتصادي في سوريا تتطلب جهوداً مشتركة من جميع الأطراف، سواء كانت حكومية أو مجتمعية، للعمل على تقديم حلول عملية وفعالة لتلبية احتياجات المواطنين وتحقيق التنمية المستدامة والشاملة.