دور القوة في التاريخ
تمر المجتمعات بمنعطفات تاريخية تجسد فصولا لتطورها السياسىي والاجتماعي. وتلك المنعطفات التاريخية – الحادة بكل تأكيد – والتي وصفها كارل ياسبرز (بالأوقات المحورية)، هي أوقات تشهد تحولات على مستوى بنية السلطة وتركيبتها، أو على مستوى الاقتصاد والاجتماع.
ربما لا توجد وحدة موضوعية للأسباب التي تصنع الاوقات المحورية، لكن التجارب تعكس أن، الحروب الواسعة، والغزوات، والثورات بكل أشكالها: العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية تضع المجتمعات على عتبة دخولها. ذلك بالإضافة إلى أن (الأوقات المحورية)، مثلها ومثل كل لحظة مهمة في مجرى التطور الاجتماعي لأي أمة، تشهد في داخلها عملية شد وجذب بين قوى اجتماعية متصارعة حول قيم وتصورات ومصالح.
ما بعد 2011
في التاريخ الثوري السوري ما بعد 2011، دائما ما كانت هناك قوتان تدفعان اتجاه التغيير الاجتماعي والسياسي الحاسم فيه، وبالتالي تصنعان فصول أوقاته المحورية. تمثلت هاتان القوتان في: حركة الجماهير المنظمة عبر ثوراتها وانتفاضاتها: إن كانت مسلحة أو سلمية. والجيش بالانشقاقات وحروبه الداخلية.
لقد دخل الجيش المنشق السياسة ، ولعل تلك الاحداث كانت الرصاصات الأولى التي اطلقت على (قومية الجيش ووطنيته)، خاصة أن الجيش قد أصبح، منذ ذلك الوقت، أداة أو طرفا في الصراع السياسي والاجتماعي في البلاد. ثم كان الجيش سببا في قطع الطريق أمام حركة التغيير الاجتماعي والسياسي بحروبه الداخلية الفصائلية )، وبإنقلاباته المتكررة في سنون الحرب والتي حدثت كلها في منعطفات حادة في المجرى العام للصراع السياسي والاجتماعي.
تداعيات جوهرية
لقد أحدثت حروب الجيش الداخلية وإنقلاباته، وبالتالي ممارسته للسياسة، اختلالات بنيوية كبيرة في مؤسسة الدولة الثورية لعدم انتظام تلك الوحدات والفصائل تحت كيان موحد حقيقي ذو قيادة واحده وقرارها من الداخل وليس العكس حيث أسهمت بشكل كبير في إدخال العنف المسلح في الحياة السياسية ، ومنع تخلق الظروف التي تسمح بتأسيس سلطة مدنية ديمقراطية تقود الثورة نحو حكم رشيد يصنع نهضته. أكتر من ذلك، أصبحت مؤسسة الجيش نفسها ساحة للصراع الأيديولوجي بين التنظيمات السياسية، وبالتالي كانت كل حروبه الداخلية وإنقلاباته عبارة عن ممارسة سياسية بأدوات أخرى، وإنعكاس لتطلعات ورغبات حزبية أيديولوجية وسلطوية ضيقة لا علاقة لها بأهداف وطنية كما يحاول أن يصور البعض. والأهم، أن كل تلك الأحداث، إن كانت حروبا داخلية أم إنقلابات عسكرية، فقد جسدت أوقاتا محورية في تاريخ الثورة ، صحيح أنها لم تتطابق شكلا، لكنها كانت حاسمة ومؤثرة، في مجرى التطور الاجتماعي والسياسي فيه، ك(إنفصال الفصائل عن بعضها والصراع المسلح ، ونسف أي بصيص أمل لإعادة بناء الوعي الجمعي على أسس جديدة، أو بوأد أحلام شعبه بالديمقراطية والحرية والسلام والعدالة.
حركة الجماهير
صحيح إن الجيش كقوة اجتماعية، كثيرا ما صنع الأوقات المحورية في الثورة ، بحيث كان طرفاً فاعلا في معادلة السلطة والسياسة والاقتصاد والاجتماع، لكن حركة الجماهير المنظمة ايضا لطالما أعادت ضبط توازنات القوى ودفعت بمعادلات جديدة في خضم الصراع السياسي والاجتماعي. حيث لم تكبح جماح قوة الجيش سوى قوة الارادة الشعبية، فقد أطاحت الاحلام بحكم العسكر، لتكون برهانا على قدرة (الجماهير المنظمة) على صناعة الفارق في (الأوقات المحورية) أيضا.
تداخلات ثقافية
لقد أظهرت الحرب (السلطوية) الدائرة الآن، نتائج تأثر بنية الثقافة السياسية في المنفى بعوامل متداخلة: كتجذر الانقلابات العسكرية، والصراعات الاجتماعية، والكفاح المسلح؛ وبالتالي تصدر أشكال العمل السياسي المدفوعة بالقوة والعنف للمشهد. وذلك، لأسباب جذرية تمثلت، في طبيعة استجابات الحكومات الوطنية للمطالب السياسية المدفوعة بقوة سلاح، والتي كانت أكبر بما لا يقاس، بتلك المرتبطة بالعمل المطلبي المدني والسلمي. ولكن النتائج الباهرة للاعتصامات والإضرابات السياسىية والمواكب الجماهيرية، بالمظاهرات على أبناء الجيش والسلطة الثورية الحاكمه ووصولا إلى عدم الاعتراف بها لطالما حملت توكيدا على قدرة الجماهير المنظمة على تحقيق هامش أكبر لاستعدال الأوضاع القائمة، وإمكانية بلورة الطاقات الجماعية في عمل ينتج عنه تغييرات على مستوى البنيات المستهدفة وخلق واقع جديد للمجتمعات الثورية
خلاصة القول
أيا كان الشعور حيال دور العنف فيما يحدث في البلاد الآن، وقدرة من يحمل السلاح على التحكم في اتجاهات التغيير الاجتماعي والسياسي، لكن الظروف الذاتية والموضوعية، تدفعنا باتجاه الإيمان بقدرة الجماهير المنظمة على صناعة الفارق، وإحداث توازن معقول. ولعلني أنظر إلى لجان الثورية المقاومة نظرة تفاؤل. بحيث يمكن التعويل عليها في هذه الظروف بالذات، في تنظيم حركة الناس في عدة أشكال تنظيمية وإعادة الاعتبار للعمل المدني (اللا عنيف) بوصفه أداة فاعلة لتحقيق التحولات السياسية والاجتماعية المأمولة ، وبالتالي قدرة الجماهير المنظمة على صناعة (الأوقات المحورية) أيضا..